تضيف: “من المفترض أن الأغنية حافظة للتراث الفكري العربي على مدار الأجيال، لكن هذا القلب الكامل للمفاهيم، والمقاييس، يذهب بنا جميعا نحو مكان معتم، لا يحمي القيم الأخلاقية والجمالية، التي وجد من أجلها الفن… الخوف في هذا الإطار على الأجيال المقبلة، فقلائل هم من يدركون خطورة ما يحدث من فوضى في الوسط الفني، وهنا يجب على العائلة أن تبذل جهدا مضاعفا من أجل نقل الوعي بقيمة الفن وجماله”، و”بما أن الذكاء الاصطناعي حديث العهد، لا توجد قوانين تحكم عمله، ولا مقاربة وتجربة عميقة في هذا الإطار، كي نصل إلى قوانين تحكم هذه التجربة، وأعتقد بأن هذا لا يزال مبكرا. هناك أيضا مسألة حقوق الملكية الفكرية، وأتمنى ألا تزيد الاحتمالات إلى حد مقاربة جديدة تنتهك حقوق الفنان عبر الذكاء الاصطناعي، وتلغي هويته”.
البصمة الصوتية
أما الشاعر الغنائي اللبناني طوني أبي كرم، فيتوقف في تصريحات لـ”المجلة” عند مسألة الملكية الفكرية أيضا، معتبرا أن “ما يحدث خرق لحدود هذه الملكية، واغتصاب لها”. إنّ البصمة الصوتية للفنان، هي الهوية التي يبنى من خلالها حضوره في الحقل الفني، وهي الأسلوب الذي يرسخ من خلاله في وعي الجمهور، على نحو تراكمي، فكيف يمكن للفنان أو ورثته، حماية حقوقه من استخدام الآخرين له بتقنيات الذكاء الاصطناعي؟
يجيب أبي كرم: “هذه الفوضى لا يمكن أن تحلّ إلا عبر سنّ القوانين المناسبة، فلا يجوز لأيّ شخص استخدام البصمة الصوتية لأيّ فنان دون الرجوع إليه، ونيل موافقته، وفي حال أنه غادر العالم، يجب الحصول على موافقة ورثة الفنان الراحل، فلا أريد لأحد أن يفلح في حديقتي وهذا حقي”. “لا يجوز لأي شخص استخدام البصمة الصوتية لأي فنان دون الرجوع إليه، ونيل موافقته، وفي حال أنه غادر العالم، يجب الحصول على موافقة ورثة الفنان الراحل” طوني أبي كرم
يضيف الشاعر اللبناني: “لا يمكن إيقاف هذا المد من التطور، بأي حال، لكن يمكن تقنينه، من خلال ملاحقة المتعدّين، فلا يحق لأيّ كان، استخدام اللحن الموسيقي، دون الرجوع إلى صاحبه، أو إلى ورثته. مثل هذه القوانين يحقّق الاتزان، في ظل الاستخدام العشوائي لأدوات الذكاء الاصطناعي في مجال الغناء والموسيقى، ومن واجب الجهات المعنية، في مجال حقوق الملكية للفنانين وقف جميع الأعمال المخالفة، وتغريم المخالفين من خلال قوانين صارمة تحمي العمل الفني الخالد في الذاكرة”.
وحول التهاون حيال تلك الخطوات المتلاحقة من التجريب باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، يقول أبي كرم: “إن استخدام اللحن والبصمة الصوتية من خلال الذكاء الاصطناعي يدمّر العناصر الأساسية للفن، من خلال تدمير إحساس الشاعر، والملحن والمغني، إذ تصبح هذه الأحاسيس الإبداعية، بفعل خروقات القائمين على الذكاء الاصطناعي، سلعة خالية من أي معنى”.
مزحة سمجة
يقيّم الناقد والباحث الموسيقى والحقوقي والشاعر فادي العبد الله الأمور من زاوية مختلفة، فيقول لـ”المجلة”: “لنقارن وضع الذكاء الاصطناعي في علاقته بالغناء، بوضعه في علاقته بالأدب. هل من المتصوّر أن يطلب أحدهم من هذا الذكاء كتابة نصوص تحمل توقيع نجيب محفوظ أو محمود درويش مثلا؟ هذا ممكن في طبيعة الحال، لكن نسب هذه النصوص إلى هذه الأسماء، لن يكون أكثر من مزحة سمجة. عبر التاريخ، كتب كثيرون نصوصا نسبوها إلى مشاهير، وغالبا ما افتُضحت بعد ذلك. بمعنى ما، أقصد أن الفعل في ذاته متاح، منذ زمن بعيد، في مجال النص، والآن يصبح متاحا في مجال الصورة والصوت، لكن الإشكالية في الحقيقة هي إلى من ينتسب العمل الفني حقا”.
يكمل العبد الله: “هذا النسب في ما يتعلق بموضوع الذاكرة السمعية، أمر افتضاحه سهل، ولن تعدو مثل هذه الأعمال كونها مزاحا سمجا. لا أظن أنها فعلا تهدد أي شيء في الذاكرة خصوصا مع التوثيق الكافي الحاصل للقرن العشرين بأكمله”.
ورثة الفنان
بشكل مغاير ينظر فادي العبد الله للأمور في جانب حقوق الملكية الفكرية والصوتية، بعد وفاة الفنان، فيرى أنه “لا يمكن لورثة محفوظ أو درويش مثلا منح حقوق استعمال اسمه لكتابة نصوص جديدة. حقوق الملكية الفكرية واستعمال الاسم محصورة في إنتاجهما الماضي. بالمثل، لا أرى أن من حق ورثة أم كلثوم أو غيرها، قانونا، منح حق استخدام صوتها في استعمالات جديدة تتجاوز إنتاجها القديم. ما هو ملكهم، موقتا، هو إرثها وليس إمكان إعادة استعمال الصوت في ما لم يكن جزءا من هذا الإرث”.
يكمل العبد الله: “أظن أن المبادئ القانونية للحقوق الفكرية تدعم مثل هذا الاستنتاج. ربما تدعو الحاجة إلى نصوص أوضح وأصرح في القوانين الحالية، لمنع اي محاولات تأويلية مختلفة. لكن المشكلة الأعمق تتعلّق باحترام القوانين أصلا في بلادنا، حتى لو أوضحت نصوصها”.
لا مفرّ من التطور
عن القلق المصاحب للتحوّلات التي تحدثها أدوات الذكاء الاصطناعي في مجال الغناء يفيدنا العبد الله: “أحسب أن الإنسان يبتكر باستمرار أدوات تقنية، وليس الذكاء الاصطناعي هذا إلا أداة جديدة. وكلّ أداة تغيّر بعمق في مجالات استعمالها. هل الإنسان مستعد لتغييرات عميقة جديدة في علاقاته بأمور كثيرة (منها الصوت) أم لا؟ الأرجح أن التغييرات دائما ما تفاجئ البشر، ولا مفر من ذلك. لكنها ليست بالضرورة مضرّة في ذاتها حتى وإن استتبعت الحنين عندنا. التغييرات تتعلق بأجيال مقبلة لم نعرفها بعد، ولهؤلاء علاقات مختلفة حكما بالصوت والصورة والواقع والافتراض والجسد”.
المصدر: المجلة