“تنانين الذكاء الاصطناعي” في الصين وغزو العالم

كاثرين ثوربيك

بقمصانه القطنية ونظاراته ذات الإطار المربّع، يبدو تشانغ بنغ أشبه بأستاذ جامعي متعمق في البحث العلمي أكثر منه مديرًا تنفيذيًا لشركة.

غير أن الرئيس التنفيذي لشركة “Zhipu AI”، إحدى أبرز الشركات الناشئة في قطاع الذكاء الاصطناعي المزدهر في الصين، يدرك تناقضات السوق المحلية أكثر من أي من منافسيه.

فهذا القطاع ليس ساحة للضعفاء، لا فكريًا ولا ماليًا. فمنذ إطلاق تطبيق “ChatGPT” قبل ثلاث سنوات، والصدمة التي أحدثها ظهور منافسه “DeepSeek” لاحقًا، شهد قطاع الذكاء الاصطناعي في الصين انفجارًا جعله إحدى أكثر الأسواق تنافسية في العالم.

وحتى مع سعي الولايات المتحدة إلى كبح التقدم التكنولوجي الصيني عبر تقييد تصدير الرقائق المتقدمة، واصلت الشركات الصينية مسيرتها بوتيرة متسارعة.

وتتفاخر وسائل الإعلام الحكومية بأن الصين أطلقت أكثر من 1500 نموذج ذكاء اصطناعي، وهو أكبر عدد في العالم من الأنظمة القادرة على فهم اللغة أو توليد الصور.

كما أدت موجة النماذج مفتوحة المصدر إلى خفض الأسعار وخلق بيئة تتطور بسرعة مذهلة وتتسم بشراسة تنافسية.

ويقول تشانغ، عبر مترجم، إن إتاحة النماذج اللغوية الضخمة للمستخدمين لتحميلها وتخصيصها أمر حيوي لتسريع التقدم ومنع قلة من الشركات من احتكار التكنولوجيا. لكنه يقرّ في الوقت نفسه بأن “الانفتاح في حد ذاته، رغم مزاياه، لا يكفي لضمان بقاء الشركة”.

ويشكّل هذا التوتر بين وتيرة الابتكار السريعة وهشاشة النماذج التجارية ملامح مستقبل الشركات الصينية الطامحة إلى النفوذ العالمي. فرغم أن حماسة بكين تجاه الذكاء الاصطناعي تُعد من الأعلى عالميًا، فإن قلة من المستهلكين الصينيين المعروفين بتقشفهم مستعدون للدفع مقابل الخدمات.

ومع اتجاه العديد من الشركات إلى تقديم النماذج المفتوحة المصدر والمنتجات المجانية، يبرز السؤال الأهم: كيف يمكن لأي منها تحقيق الأرباح؟

إن طموح الصين لتتربع على عرش الذكاء الاصطناعي في العالم يعتمد في جوهره على إيجاد حل لهذه المعضلة.

تشانغ ليس مارك زوكربيرغ، ولا إيلون ماسك أو سام ألتمان. فهو على عكس نجوم وادي السيليكون، يفضّل الحديث عن تقنيات المزج بين النماذج ومعايير الضبط والإنجازات الهندسية لفريقه، أكثر من خوض النقاشات السياسية أو التنافس الشخصي.

ومع ذلك، بدا عليه شيء من الانزعاج وهو يصف خصوصية هذا القطاع، موضحًا أن قادة الأعمال الصينيين كثيرًا ما يواجهون سوء فهم من الخارج؛ حيث يُعزى نجاحهم دوماً إلى الدعم الحكومي.

لكن الحقيقة، كما يقول، تبدو أكثر تعقيدًا: فصعوبات تحقيق الأرباح في قطاع الذكاء الاصطناعي الصيني تعود بالأساس إلى تحول التكنولوجيا إلى سلعة شائعة وسط منافسة شرسة ومتسارعة.

ويضيف تشانغ: “قد تبدو التخفيضات الحادة في الأسعار غير منطقية في الخارج، لكنها في الصين جزء طبيعي من دورة السوق. ومع تطور القطاع، سنتمكن من إعادة الأسعار إلى مستويات أكثر توازنًا”.

هذه الاستراتيجية القائمة على النمو قبل الربح، أو ما يمكن تسميته “التوسع مهما كان الثمن”، تجعل من وقوع هزة تصحيحية في السوق أمرًا محتوماً، حتى وإن لم تكن وشيكة.

لكنها في الوقت ذاته تضع الحكومة الصينية أمام معضلة معقدة، إذ تراهن بكثافة على الذكاء الاصطناعي ليكون محرّكًا للنمو الصناعي، ودافعًا لزيادة الاستهلاك المحلي، ومحفزًا للاكتشاف العلمي، وأداة لتعزيز طموحاتها في منافسة الولايات المتحدة على الهيمنة الجيوسياسية.

وفي أغسطس الماضي، كشف مجلس الدولة الصيني عن خطة “الذكاء الاصطناعي بلس”، وهي مبادرة طموحة تهدف إلى دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي في “كل شيء تقريبًا”، كما وصفها أحد المحللين.

وفي المقابل، بدا الرئيس الصيني شي جينبينغ يتساءل عمّا إذا كانت جميع المقاطعات الصينية بحاجة فعلاً إلى تطوير “نفس المجالات القليلة: الذكاء الاصطناعي، والحوسبة، والمركبات الجديدة للطاقة”.

كما حذّرت اللجنة الوطنية الصينية للتنمية والإصلاح، وهي أعلى هيئة للتخطيط الاقتصادي في البلاد، مما وصفته بـ”المنافسة المفرطة” في هذا القطاع، مؤكدة أن الحكومة “ستتجنب بحزم المنافسة الفوضوية أو التقليد الأعمى”.

ورغم هذه التحذيرات، لا يمكن إنكار أن حدة المنافسة الداخلية أطلقت زخماً أقوى من أي سياسة صناعية رسمية.

والمفارقة أن الضغوط الأميركية الهادفة إلى كبح تطور الذكاء الاصطناعي في الصين دفعت الشركات المحلية إلى أن تصبح أكثر ابتكارًا وكفاءة من حيث التكلفة.

وقد تفاعلت هذه الضغوط الخارجية مع روح الرأسمالية الصينية الجامحة لتخلق ما يشبه صراع البقاء للأصلح، الذي يصقل جيلاً جديدًا من “التنانين” و”النمور” الساعية إلى المجد العالمي.

وهذه الظاهرة ليست جديدة في المشهد الصيني المعروف بتنافسه المفرط. فكلما برز اتجاه صناعي جديد، من السيارات الكهربائية إلى توصيل الطعام وصولاً إلى الألواح الشمسية، تتكاثر الشركات المتنافسة، ويسعى كل منها لاقتناص حصة من السوق ولو على حساب الأرباح.

وقد أطلق الشباب الصيني على هذه الحالة مصطلحًا خاصًا وهو “neijuan”، أي الاستنزاف التنافسي الذي يدفع الجميع للعمل بجهد متزايد من دون تحقيق مكاسب حقيقية.

ورغم أن الترجمة الحرفية تعني “الالتفاف إلى الداخل”، فإن المعنى المقصود هو العمل المفرط والمستمر مقابل عوائد متناقصة. وقد تحوّل المصطلح بسرعة من تعبير شبابي إلى مشكلة سياسية حقيقية بالنسبة للرئيس شي، إذ يغذي دوامة من الإنهاك الجماعي وارتفاع التكاليف عبر مختلف القطاعات.

أمّا شركات الذكاء الاصطناعي الصينية، فقد نجت من ما يُعرف بـ”معركة المائة نموذج”، تلك الفوضى التنافسية التي اندلعت عقب إطلاق “ChatGPT” في عام 2022.

وفي العام الماضي، وصف الرئيس التنفيذي لشركة “Baidu” هذا التزاحم في إنتاج النماذج بأنه “هدر كبير للموارد”.

وفي يناير الماضي، مثّل ظهور نموذج “DeepSeek” المتقدم في قدرات الاستدلال نهاية رمزية لتلك الفوضى، لكنه في الوقت نفسه أثبت أن أي فريق صغير يضم بضع مئات من المهندسين يمكنه منافسة وادي السيل

المصدر: الشرق الأوسط

Related Posts

الذكاء الاصطناعي في الحياة المعاصرة.. ثورة علمية بين الأمل والمخاطر

ضياء الدين بامخرمة يمثل الذكاء الاصطناعي اليوم إحدى أهم محطات التطور العلمي في تاريخ البشرية، بل يمكن القول إنه امتداد طبيعي لمسيرة العقل البشري الذي سعى على مدى القرون إلى…

حول نظرية القانون المشتغل بالكود “الرمز” Code-driven law

حول نظرية القانون المشتغل بالكود “الرمز” Code-driven law د. علي الصديقي تمر العلوم التجريبية بتحولات سريعة هذه الأيام، لا نقف على تطوّر حتى يداهمنا تطوّر آخر أسرع منه. فقبل سنوات…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات

“تنانين الذكاء الاصطناعي” في الصين وغزو العالم

  • أكتوبر 30, 2025
  • 32 views
“تنانين الذكاء الاصطناعي” في الصين وغزو العالم

الذكاء الاصطناعي في الحياة المعاصرة.. ثورة علمية بين الأمل والمخاطر

  • أكتوبر 12, 2025
  • 204 views
الذكاء الاصطناعي في الحياة المعاصرة.. ثورة علمية بين الأمل والمخاطر

حول نظرية القانون المشتغل بالكود “الرمز” Code-driven law

  • أكتوبر 1, 2025
  • 293 views
حول نظرية القانون المشتغل بالكود “الرمز” Code-driven law

الإعلام.. و”حُثالة الذكاء الاصطناعي”

  • سبتمبر 29, 2025
  • 304 views
الإعلام.. و”حُثالة الذكاء الاصطناعي”

تطبيقات الذكاء الاصطناعي.. وتساؤلات البشر

  • سبتمبر 26, 2025
  • 255 views
تطبيقات الذكاء الاصطناعي.. وتساؤلات البشر

كيف يغيّر الذكاء الاصطناعي «العمليات الأمنية»؟

  • سبتمبر 24, 2025
  • 285 views
كيف يغيّر الذكاء الاصطناعي «العمليات الأمنية»؟