في زمن التنظيمات: هل تستطيع السعودية أن تكتب قواعد لعبة الذكاء الاصطناعي؟

محمد بن نخيلان الشمري

حين أقرّ البرلمان الأوروبي في منتصف عام 2024 قانونه الشامل للذكاء الاصطناعي، بعد أربع سنوات من المداولات والمفاوضات، لم يكن ذلك مجرد حدث تشريعي عابر في عاصمة بيروقراطية أوروبية. كان إعلانًا صريحًا بأن عصر الحرية المطلقة في تطوير الذكاء الاصطناعي قد انتهى، وأن العالم يدخل مرحلة جديدة: مرحلة القواعد والحدود والتنظيمات. وبينما كانت واشنطن تتأرجح بين الولايات الفيدرالية في صناعة قوانينها، وبكين تمضي في بناء صناعتها الضخمة بعيدًا عن ضوضاء النقاش الحقوقي، وقف العالم أجمع يراقب: من سيفرض منطقه؟ من سيصنع المعايير التي ستحكم التكنولوجيا الأهم في القرن الحادي والعشرين؟

وفي قلب هذا السباق الجيوسياسي الصامت، تقف السعودية عند منعطف تاريخي. ليس لأنها تمتلك اليوم واحدة من أكبر شركات الذكاء الاصطناعي، ولا لأنها أنتجت واحدًا من أكثر النماذج تطورًا. بل لأنها تمتلك شيئًا أندر وأثمن: فرصة أن تختار طريقها بحرية، قبل أن تُملَى عليها الخيارات من الخارج. تمتلك السعودية رؤوس أموال عملاقة تُقدّر بعشرات المليارات من الدولارات موجّهة للذكاء الاصطناعي، وطموحات غير محدودة في رؤية 2030، وأهم من ذلك كله، مساحة بيضاء لم تُكتب بعد. فهل ستكتب السعودية قواعدها الخاصة، أم ستكتفي بنسخ ما كتبه الآخرون؟

الحقيقة أن العالم لا يقف أمام نموذجين فحسب للتنظيم، بل أمام فلسفتين مختلفتين جذريًا حول علاقة الدولة بالتكنولوجيا، وحول دور الإنسان في عصر الآلة. النموذج الأوروبي، بقانونه الضخم الذي يصنّف تطبيقات الذكاء الاصطناعي حسب درجة المخاطر ويمنع بعضها كليًا، يضع الإنسان والحقوق الفردية في المركز. يقول لك هذا النموذج ببساطة: التكنولوجيا خادم، وليست سيدًا. لن نسمح بأن يُستخدم الذكاء الاصطناعي في التعرّف على الوجوه في الأماكن العامة بشكل عشوائي، ولن نقبل بأنظمة تقييم اجتماعي تحاكم البشر بناءً على خوارزميات، ولن ندع الآلة تتخذ قرارات حيوية في التوظيف أو القضاء دون رقابة إنسانية صارمة.

وبالمقابل، فإن النموذج الأميركي، المبعثر بين الولايات والمتذبذب بين الإدارات، يراهن على شيء مختلف تمامًا: على قوة السوق وحريته. يؤمن هذا النهج بأن الابتكار لا يزدهر في بيئة القيود، وأن التنظيم الزائد يقتل الإبداع قبل أن يولد. عشرات الوكالات الفيدرالية أصدرت تنظيماتها الخاصة خلال عام واحد، لكنها ظلت متباينة ومفككة، وكأن واشنطن تقول: لنجرّب أولًا، ثم نرى ماذا يحدث.

أما الصين، فقد اختارت طريقًا ثالثًا لا يشبه الأولين. إنه طريق السرعة والحجم والسيطرة المركزية. بكين لم تكن تضيّع الوقت في النقاشات الطويلة حول الخصوصية أو حقوق الإنسان، بل كانت مشغولة ببناء أضخم بنية تحتية رقمية على وجه الأرض. 140 نموذجًا للذكاء الاصطناعي التوليدي تم تسجيلها رسميًا في أقل من عامين، استثمارات تُقاس بمئات المليارات، ونماذج مثل “ديب سيك” التي فاجأت العالم في نهاية عام ألفين وأربعة وعشرين بتفوقها على نماذج أميركية راسخة، وبتكلفة أقل بكثير. الصين تريد أن تكون الأولى، ولا تمانع في دفع أي ثمن للوصول إلى القمة.

ولكن ماذا عن السعودية؟ أين موقعها في هذا المشهد المعقد؟

الجواب ليس بسيطًا، لأن السعودية ليست مجرد مشترٍ لتكنولوجيا جاهزة، بل هي طرف يصنع واقعًا جديدًا. مئة مليار دولار تُخصّص لمشروع «التفوق» Project Transcendence، صناديق استثمارية عملاقة لشركات الذكاء الاصطناعي الناشئة، شراكات استراتيجية مع عمالقة التكنولوجيا مثل جوجل وأمازون، وطموح معلن بأن تصبح المملكة مركزًا إقليميًا بل عالميًا لهذه التكنولوجيا. الأرقام مبهرة، والتوجّه واضح. لكن السؤال الحقيقي ليس كم نستثمر، بل كيف ننظّم؟ ليس كم نموذجًا سنطلق، بل أي قيم سنحمّل هذه النماذج؟

إن الخطر الأكبر الذي يواجه السعودية اليوم ليس في عدم امتلاك التكنولوجيا، بل في استيراد التنظيمات جاهزة دون تفكير. أن تنسخ السعودية القانون الأوروبي كما هو، يعني أن تُقيّد نفسها بضوابط صُمّمت لمجتمعات مختلفة تمامًا، ولها تاريخ مختلف مع التكنولوجيا، ولها أولويات قد لا تتقاطع مع أولويات رؤية 2030. وأن تتبنى النموذج الأميركي الفوضوي، يعني أن تترك المجال مفتوحًا على مصراعيه دون حماية حقيقية للمواطنين، ودون ضمانات لاستخدام أخلاقي ومسؤول للتكنولوجيا. وأن تحاكي الصين في سباقها المحموم، يعني أن تتخلى عن فرصة بناء نموذج متوازن يحترم الإنسان بقدر ما يحترم الابتكار.

ولذلك، فإن السعودية تحتاج إلى شيء أكثر دقة وذكاءً: نموذج هجين يجمع بين أفضل ما في العوالم الثلاثة. من أوروبا، يمكن أن نأخذ فكرة التصنيف حسب المخاطر، ولكن ليس بنفس الصرامة المُقعِدة. من أميركا، نأخذ الإيمان بحرية الابتكار، ولكن مع وضع حدود واضحة لا يمكن تجاوزها. ومن الصين، نتعلم السرعة والطموح، ولكن دون التضحية بالقيم الإنسانية والشفافية.
وهذا النموذج الهجين ليس ترفًا فكريًا، بل هو ضرورة استراتيجية. السعودية تستثمر بكثافة في قطاعات حيوية ضمن رؤية 2030: الصحة، التعليم، الطاقة، السياحة، الخدمات الحكومية الرقمية. كل هذه القطاعات ستعتمد بشكل متزايد على الذكاء الاصطناعي. السؤال إذن: هل نريد لهذه الأنظمة أن تعمل بحرية مطلقة دون رقابة، أم نريد إطارًا تنظيميًا واضحًا يضمن سلامتها وفعاليتها وعدالتها؟

في مجال الصحة، مثلًا، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُحدث ثورة في التشخيص المبكر للأمراض، وفي تطوير الأدوية، وفي تخصيص العلاجات لكل مريض. ولكن ماذا لو أخطأ النظام؟ من يتحمل المسؤولية؟ وكيف نضمن أن البيانات الطبية الحساسة لا تُستغل تجاريًا أو تُسرّب؟ القانون الأوروبي يجيب بطريقة، والنموذج الأميركي بطريقة أخرى. أما السعودية، فيجب أن تجيب بما يتناسب مع قيمها وأولوياتها الوطنية.

وفي مجال التعليم، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُخصّص التعليم لكل طالب، وأن يساعد المعلمين في مهامهم، وأن يفتح آفاقًا جديدة للتعلّم الذاتي. ولكن ماذا عن خصوصية الطلاب؟ ماذا عن احتمالية أن تُستخدم هذه الأنظمة لفرز الطلاب مبكرًا بناءً على خوارزميات قد تكون متحيزة؟ هذه أسئلة لا يمكن تجاهلها، ولا يمكن الإجابة عليها بنسخ قانون من هنا أو هناك.

إن التحدي الأكبر الذي يواجه السعودية اليوم ليس تقنيًا، بل هو تحدٍ فكري وسياسي واجتماعي. هو تحدي أن نقرر: أي نوع من المستقبل نريد؟ هل نريد مستقبلاً تهيمن عليه الكفاءة والسرعة على حساب كل شيء آخر، أم نريد مستقبلاً يوازن بين الكفاءة والإنسانية؟ هل نريد أن نكون مستهلكين للتكنولوجيا التي يصنعها الآخرون، أم نريد أن نكون شركاء في صناعة القواعد التي تحكمها؟

والفرصة اليوم سانحة، لأن العالم نفسه لم يستقر بعد على إجابات نهائية. أوروبا أطلقت قانونها، نعم، ولكنها تواجه انتقادات حادة من شركاتها الخاصة التي تقول إن القيود الصارمة تُبطئ الابتكار وتدفع المواهب للهجرة إلى أميركا. وأميركا، رغم قوتها التكنولوجية الهائلة، تعاني من فوضى تنظيمية تجعل الشركات نفسها تطالب بقواعد موحّدة. والصين، رغم تقدمها الهائل، تواجه مشاكل الاعتماد على رقائق مهرّبة وعقوبات دولية تُقيّد وصولها إلى أحدث التقنيات.

في هذا الفراغ، تستطيع السعودية أن تقدّم شيئًا فريدًا: نموذجًا تنظيميًا عربيًا إسلاميًا يحترم خصوصية الثقافة والقيم المحلية، ولكنه في الوقت نفسه منفتح على العالم وقابل للتطبيق إقليميًا. نموذج يضع الإنسان في المركز دون أن يُعطّل الابتكار، يحمي البيانات دون أن يُخنق الاستثمار، يُشجّع الشفافية دون أن يفرض بيروقراطية مُقعدة.

ولنكن صريحين: هذا ليس سهلًا. صياغة إطار تنظيمي متوازن للذكاء الاصطناعي تتطلب فهمًا عميقًا للتكنولوجيا نفسها، وللسياق الاجتماعي والاقتصادي، وللطموحات الوطنية طويلة المدى. تتطلب حوارًا حقيقيًا بين المختصين والحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني. تتطلب استعدادًا للتجربة والتعلّم من الأخطاء، وللتعديل المستمر بحسب ما تفرضه المستجدات.

ولكن إذا لم تفعل السعودية ذلك الآن، فإن الآخرين سيفعلونه نيابة عنها. الشركات العالمية التي تستثمر في المملكة لن تنتظر طويلًا. ستأتي بأنظمتها الخاصة، بمعاييرها الخاصة، بقيمها الخاصة. وحينها، لن يكون للسعودية إلا أن تختار: إما أن تقبل بما يُفرض عليها، أو أن تُغلق الأبواب وتخسر الفرصة.

إن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة تقنية، بل هو مرآة تعكس قيمنا وأولوياتنا كمجتمعات. كل خط من خطوط الكود، كل خوارزمية، كل نموذج لغوي، يحمل داخله افتراضات حول ما هو عادل وما هو مقبول، وما يستحق الحماية وما لا يستحق. وإذا لم نشارك في صياغة هذه الافتراضات، فإننا نسلّم للآخرين حق تعريف مستقبلنا.

اليوم، والعالم يقف عند مفترق طرق التنظيمات، تملك السعودية فرصة نادرة: أن تكون ليست مجرد لاعب في اللعبة، بل أن تشارك في كتابة قواعدها. أن تبني نموذجًا لا يُستورَد ولا يُنسَخ، بل يُصنع من داخل التجربة السعودية نفسها، بكل ما تحمله من طموح وتحدٍ وأمل. نموذج يقول للعالم: نعم، نريد أن نكون في المقدمة، ولكن ليس على حساب قيمنا. نعم، نريد الابتكار، ولكن ليس بلا ضوابط. نعم، نريد المستقبل، ولكن مستقبلاً نصنعه بأيدينا.

والسؤال الآن ليس إن كانت السعودية قادرة على ذلك، بل هل ستفعله قبل أن يصبح الخيار خارج يديها؟

  • Related Posts

    “تنانين الذكاء الاصطناعي” في الصين وغزو العالم

    كاثرين ثوربيك بقمصانه القطنية ونظاراته ذات الإطار المربّع، يبدو تشانغ بنغ أشبه بأستاذ جامعي متعمق في البحث العلمي أكثر منه مديرًا تنفيذيًا لشركة. غير أن الرئيس التنفيذي لشركة “Zhipu AI”،…

    الذكاء الاصطناعي في الحياة المعاصرة.. ثورة علمية بين الأمل والمخاطر

    ضياء الدين بامخرمة يمثل الذكاء الاصطناعي اليوم إحدى أهم محطات التطور العلمي في تاريخ البشرية، بل يمكن القول إنه امتداد طبيعي لمسيرة العقل البشري الذي سعى على مدى القرون إلى…

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    مقالات

    في زمن التنظيمات: هل تستطيع السعودية أن تكتب قواعد لعبة الذكاء الاصطناعي؟

    • نوفمبر 8, 2025
    • 47 views
    في زمن التنظيمات: هل تستطيع السعودية أن تكتب قواعد لعبة الذكاء الاصطناعي؟

    “تنانين الذكاء الاصطناعي” في الصين وغزو العالم

    • أكتوبر 30, 2025
    • 95 views
    “تنانين الذكاء الاصطناعي” في الصين وغزو العالم

    الذكاء الاصطناعي في الحياة المعاصرة.. ثورة علمية بين الأمل والمخاطر

    • أكتوبر 12, 2025
    • 243 views
    الذكاء الاصطناعي في الحياة المعاصرة.. ثورة علمية بين الأمل والمخاطر

    حول نظرية القانون المشتغل بالكود “الرمز” Code-driven law

    • أكتوبر 1, 2025
    • 335 views
    حول نظرية القانون المشتغل بالكود “الرمز” Code-driven law

    الإعلام.. و”حُثالة الذكاء الاصطناعي”

    • سبتمبر 29, 2025
    • 345 views
    الإعلام.. و”حُثالة الذكاء الاصطناعي”

    تطبيقات الذكاء الاصطناعي.. وتساؤلات البشر

    • سبتمبر 26, 2025
    • 298 views
    تطبيقات الذكاء الاصطناعي.. وتساؤلات البشر