الذكاء الاصطناعي في الحياة المعاصرة.. ثورة علمية بين الأمل والمخاطر

ضياء الدين بامخرمة

يمثل الذكاء الاصطناعي اليوم إحدى أهم محطات التطور العلمي في تاريخ البشرية، بل يمكن القول إنه امتداد طبيعي لمسيرة العقل البشري الذي سعى على مدى القرون إلى ابتكار أدوات تساعده على فهم العالم وإعادة صياغته، وإذا كان اكتشاف النار والزراعة وبزوغ الثورة الصناعية قد شكّلت نقاط انعطاف كبرى، فإن الذكاء الاصطناعي يُعد الثورة الرابعة التي تعيد تعريف الإنسان نفسه وعلاقته بالمعرفة والسلطة والإنتاج.

إن الذكاء الاصطناعي ليس وليد الصدفة، بل هو ثمرة تطور العقل البشري الذي كانت حصيلته تراكمًا معرفيًا وتقنيًا طويلًا بدأ مع علوم الرياضيات والمنطق والبرمجة، وصولًا إلى الحوسبة السحابية والشبكات العصبية العميقة.

في الاقتصاد والإنتاج: مكّن الذكاء الاصطناعي الشركات من رفع الكفاءة، وخفض التكاليف، وتحليل الأسواق بسرعة فائقة، الأمر الذي جعل بعض الاقتصادات العالمية تنمو بوتيرة أسرع من غيرها.

في الصحة: وفّر أدوات ثورية لتشخيص الأمراض، وتحليل الصور الطبية، وتطوير العلاجات الدقيقة.

في التعليم: فتح الباب أمام أنظمة تعليمية شخصية تتكيف مع قدرات الطالب ومستواه، مما يتيح عدالة أكبر في فرص التعلم.

في الحياة اليومية: من الهواتف الذكية إلى السيارات ذاتية القيادة، صار الذكاء الاصطناعي جزءًا لا يتجزأ من تفاصيل الحياة.

لكن هذه الثورة ليست بريئة من الأخطار، فهناك وجه مظلم يحمل ملامحه تحديات ومخاطر منها:

1 – الخطر الأمني والعسكري: تطوير “الأسلحة الفتاكة الذاتية” (Lethal Autonomous Weapons) ينذر بسباق تسلح عالمي جديد، أكثر خطورة من النووي لأنه غير مقيد بعد بمعاهدات دولية.

2 – الخطر الاقتصادي والاجتماعي: التوسع في استخدام الروبوتات والأنظمة الذكية قد يؤدي إلى اختفاء ملايين الوظائف التقليدية، مما يزيد البطالة ويعمّق الفجوة الطبقية.

3 – الخطر الثقافي والفكري: الذكاء الاصطناعي قادر على إنتاج محتويات مزيفة (Deepfakes) قد تُستخدم في التضليل الإعلامي والتأثير على الانتخابات وخلق الفتن المجتمعية.

4 – الخطر الأخلاقي: من يمتلك هذه التكنولوجيا؟ وكيف يحدد ما يجوز وما لا يجوز استخدامها فيه؟ هذه أسئلة ما تزال دون جواب.

لذا في خضم هذه المخاطر من المهم التنبه إلى أن سباق الذكاء الاصطناعي ليس متكافئًا بين الدول، فهناك قمة وذيل، فالولايات المتحدة الأميركية والصين تقفان على قمة الهرم بفضل استثماراتهما الضخمة في البحث العلمي والبنية التحتية الرقمية، في حين تعاني بقية دول العالم من ضعف السيطرة في هذا المجال، مما يجعلها مجرد مستهلكة لهذه التكنولوجيا بدل أن تكون مساهمة في صناعتها، وهذه الفجوة قد تتحول إلى “استعمار رقمي” جديد، يعمّق التبعية ويقوّض فرص التنمية المستقلة.

إن خطورة الذكاء الاصطناعي تكمن في أنه عابر للحدود ولا يمكن حصره في نطاق دولة أو قارة، ومن هنا تبرز الحاجة إلى أطر حاكمة، منها:

اتفاقات دولية مُلزمة تنظم تطوير الذكاء الاصطناعي واستخدامه، وتمنع توظيفه في أغراض عسكرية أو عدائية.

دور الأمم المتحدة كمنصة عالمية لصياغة ميثاق شبيه بميثاق الطاقة النووية، يضمن أن تبقى هذه التكنولوجيا في خدمة الإنسانية.

تعزيز التعاون الدولي على أساس المسؤولية المشتركة، بعيدًا عن أنانية رأس المال الذي يسعى للربح ولو على حساب حياة البشر.
لقد حذر عدد من القادة والخبراء في العالم من مخاطر الاعتماد على الذكاء الاصطناعي:
فالرئيس الأميركي دونالد ترامب تحدث في أكثر من مناسبة عن ضرورة ضبط مسار الذكاء الاصطناعي، معتبرًا أن انفلاته قد يؤدي إلى “فوضى لا يمكن السيطرة عليها”.
علماء مثل ستيفن هوكينغ وإيلون ماسك حذروا بدورهم من أن الذكاء الاصطناعي قد يكون أخطر من السلاح النووي إن لم يُنظّم دوليًا.

رئيس جمهورية جيبوتي إسماعيل عمر جيله أكد أن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد تقنية عابرة، بل رهانًا استراتيجيًا للتنمية والتحديث المؤسسي، ففي خطاب له عام 2025 شدّد على أن “الابتكار الرقمي والذكاء الاصطناعي” من أهم رهانات الحاضر والمستقبل التي يجب إدماجها في هيكلة الدولة، كما نبّه أمام الأمم المتحدة إلى الأبعاد الأخلاقية لهذه التكنولوجيا وضرورة التزام المجتمع الدولي بضبطها.

الأمير محمد بن سلمان، ولي عهد المملكة العربية السعودية، قال: “نبني نموذجًا رائدًا لإطلاق قيمة البيانات والذكاء الاصطناعي لبناء اقتصادات المعرفة والارتقاء بأجيالنا الحاضرة والقادمة”، هذه الرؤية تعكس البُعد الاستراتيجي الذي تتبناه المملكة ضمن إطار رؤيتها 2030 والقمة العالمية للذكاء الاصطناعي في الرياض.

قادة آخرون دعوا إلى اعتماد معايير أخلاقية عالمية تضع مصلحة الإنسان في المقام الأول.

هذه الأمور تجعلنا أمام تساؤل: هل الذكاء الاصطناعي نعمة أم نقمة؟

إجابتي: حقيقة أن الذكاء الاصطناعي ليس في ذاته خيرًا مطلقًا ولا شرًا مطلقًا؛ بل هو أداة في يد الإنسان، فإن استخدم بحكمة ورؤية إنسانية واعية، كان مدخلًا إلى عصر جديد من الازدهار والعدالة والتنمية، أما إذا تُرك فريسة لجشع الشركات الكبرى وصراعات القوى الدولية، فقد يتحول إلى نقمة تطيح بمستقبل البشرية.

إن الذكاء الاصطناعي اليوم هو مرآة للعقل البشري: فيه نرى قدرتنا على الإبداع كما نرى ميلنا إلى التدمير. والمسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقنا هي أن نضمن أن يظل في خدمة الإنسان، لا أن يصبح سيدًا عليه، ومن هنا فإن مستقبل الذكاء الاصطناعي مرهون بقدرتنا على إرساء مبدأ التوازن بين التقدم والضبط، بين الحرية والمسؤولية، وبين الحلم والواقع.

المصدر: الرياض

  • Related Posts

    حول نظرية القانون المشتغل بالكود “الرمز” Code-driven law

    حول نظرية القانون المشتغل بالكود “الرمز” Code-driven law د. علي الصديقي تمر العلوم التجريبية بتحولات سريعة هذه الأيام، لا نقف على تطوّر حتى يداهمنا تطوّر آخر أسرع منه. فقبل سنوات…

    الإعلام.. و”حُثالة الذكاء الاصطناعي”

    الإعلام.. و”حُثالة الذكاء الاصطناعي” د. ياسر عبدالعزيز لقد ظهر أخيرًا أول رد فعل ثقافي متماسك ضد الإفراط في استخدام منتجات الذكاء الاصطناعي الرديئة والمُتهافتة ضمن المحتوى الإعلامي، حينما أطلق باحثون…

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    مقالات

    الذكاء الاصطناعي في الحياة المعاصرة.. ثورة علمية بين الأمل والمخاطر

    • أكتوبر 12, 2025
    • 74 views
    الذكاء الاصطناعي في الحياة المعاصرة.. ثورة علمية بين الأمل والمخاطر

    حول نظرية القانون المشتغل بالكود “الرمز” Code-driven law

    • أكتوبر 1, 2025
    • 215 views
    حول نظرية القانون المشتغل بالكود “الرمز” Code-driven law

    الإعلام.. و”حُثالة الذكاء الاصطناعي”

    • سبتمبر 29, 2025
    • 228 views
    الإعلام.. و”حُثالة الذكاء الاصطناعي”

    تطبيقات الذكاء الاصطناعي.. وتساؤلات البشر

    • سبتمبر 26, 2025
    • 155 views
    تطبيقات الذكاء الاصطناعي.. وتساؤلات البشر

    كيف يغيّر الذكاء الاصطناعي «العمليات الأمنية»؟

    • سبتمبر 24, 2025
    • 177 views
    كيف يغيّر الذكاء الاصطناعي «العمليات الأمنية»؟

    الذكاء الاصطناعي في قاعة التشريفات: ضيف لا مضيف

    • سبتمبر 18, 2025
    • 113 views
    الذكاء الاصطناعي في قاعة التشريفات: ضيف لا مضيف