الصورة كمعلومة نهائية.. نهاية العقل التحليلي؟

AI بالعربي – متابعات

من الكلمة إلى الصورة

منذ فجر الحضارة، كان الإنسان يعبّر بالكلمة، يروي ويفسّر ويفكّر عبر اللغة. أما اليوم، فإن الصورة أصبحت اللغة الجديدة للعصر. نعيش في زمنٍ تُلتقط فيه في كل ثانية ملايين الصور، وتُستهلك دون تفكير. أصبح العالم مرئيًا أكثر من أي وقت مضى، وأقل تفكيرًا مما كان عليه. ومع صعود الذكاء الاصطناعي القادر على توليد الصور بالنص، يبدو أن الكلمة نفسها بدأت تفقد سيادتها أمام الصورة التي تتكلم وحدها.

تقول الباحثة الأميركية “سوزان سونتاغ” في كتابها حول التصوير: “كل صورة تقول: لقد كنتُ هنا، لكنها لا تقول لماذا.” ومع هيمنة الصورة، يبدو أن هذا “اللماذا” بدأ يتلاشى من الوعي الإنساني شيئًا فشيئًا.

شاشة ضخمة تُظهر آلاف الصور المتغيرة بسرعة، بينما يقف إنسان وحيد في المنتصف مذهولًا أمام الفيض البصري
شاشة ضخمة تُظهر آلاف الصور المتغيرة بسرعة، بينما يقف إنسان وحيد في المنتصف مذهولًا أمام الفيض البصري
منطق الصورة مقابل منطق التحليل

الصورة لا تحتاج إلى شرح، فهي تضرب العين مباشرة، تختصر المعنى في لحظة، وتستغني عن التحليل الطويل. في المقابل، التحليل يحتاج إلى زمن، إلى تتابع منطقي، إلى بناءٍ لغوي. ومع تمدّد الثقافة البصرية، أصبح المنطق التحليلي في تراجع مستمر. الناس تفضّل “رؤية” المعلومة لا “قراءتها”، وتكتفي بالانطباع لا بالفكرة.

الذكاء الاصطناعي ضاعف هذا التحوّل. فالصورة لم تعد نتاجًا للتأمل أو للخبرة الفنية، بل للطلب اللحظي. في بضع كلمات يُنتج النموذج مشهدًا شديد الواقعية — صورة لحدث لم يقع، أو لوجهٍ لم يوجد. ومع الوقت، بدأت الصور تتفوق على النصوص في صناعة الرأي العام، وفي تكوين “الحقيقة” نفسها.

تقول الباحثة في الإعلام الرقمي “دانا بويد”: “الصورة اليوم ليست انعكاسًا للواقع، بل بديلاً عنه.” وهنا يكمن جوهر التحول: لم تعد الصورة وسيلة تشرح الفكرة، بل أصبحت الفكرة نفسها.

الذكاء الاصطناعي وصناعة المشهد

حين ظهرت أدوات مثل Midjourney وDALL·E وRunway، ظنّ الكثيرون أنها ستوسع خيال الإنسان. لكنها سرعان ما تحوّلت إلى مصانع ضخمة لإنتاج صور تحاكي كل شيء: الخيال، التاريخ، وحتى الأكاذيب. الذكاء الاصطناعي اليوم لا “يرسم” ما يراه، بل “يتنبأ” بما يريد المستخدم أن يراه، وفق أنماط تعلمها من مليارات الصور السابقة.

هذا يعني أن الصورة التي نراها لم تعد تُحاكي الواقع، بل تحاكي “الاحتمال”. إنها صورة بلا أصل، بلا لحظة زمنية، بلا مكان محدد. ومع ذلك، تُستهلك كما لو كانت حقيقة مؤكدة. وهكذا، تبدأ مرحلة جديدة من الإدراك البصري: مرحلة اللاواقع المقنع.

شاشة ضخمة تُظهر آلاف الصور المتغيرة بسرعة، بينما يقف إنسان وحيد في المنتصف مذهولًا أمام الفيض البصري
شاشة ضخمة تُظهر آلاف الصور المتغيرة بسرعة، بينما يقف إنسان وحيد في المنتصف مذهولًا أمام الفيض البصري
الصورة كأداة سلطة

في الماضي، كانت الكلمة أداة الإقناع والسيطرة. اليوم، الصورة هي الأداة الأقوى. فهي تُثير، وتُحرّك، وتُقنع دون أن تُبرّر. تستطيع أن تغيّر رأيًا سياسيًا أو توجّه جمهورًا كاملًا بلقطة واحدة. ومع الذكاء الاصطناعي، أصبح إنتاج الصورة السياسية أو الدعائية أسهل وأسرع من أي وقت مضى.

الأنظمة الإعلامية الجديدة لا تحتاج إلى “تحليل سياسي” لتوجيه الناس، بل إلى “سرد بصري” ذكي يصنع المشهد ويزرع الانطباع. ومن هنا، يصبح الخطر الأكبر ليس في الصورة المزيفة، بل في الصورة “المُقنعة” التي تبدو واقعية أكثر من الواقع.

يقول الفيلسوف الفرنسي “بول فيريليو”: “كل تكنولوجيا رؤية هي في الوقت نفسه تكنولوجيا إخفاء.” فالصورة التي تكشف لك شيئًا، تُخفي عنك أشياء كثيرة. إنها تحدّد ما تراه، وبالتالي ما تفكر فيه.

نهاية الحجة وبداية الانفعال

حين تهيمن الصورة، يختفي الحوار التحليلي. فالنقاش لم يعد يدور حول فكرة، بل حول مشهد. بدل أن نسأل “لماذا حدث هذا؟”، نسأل “هل رأيت الصورة؟”. ومع هذا التحول، يصبح الوعي الجماعي أكثر انفعالًا وأقل تفكيرًا.

وسائل التواصل الاجتماعي ساهمت في ترسيخ هذا النمط، فهي تعيد إنتاج ما يُثير المشاعر لا ما يُثير العقل. صورة طفل، مشهد مأساوي، أو لقطة بطولية، يمكن أن تغيّر الرأي العام أكثر مما تفعله مئات المقالات التحليلية. لقد أصبحت “المشاعر” بديلاً عن “الأدلة”، و”الانطباع” بديلاً عن “التحليل”.

يقول عالم الأعصاب “أنطونيو داماسيو”: “الدماغ لا يفرّق تمامًا بين ما يُرى وما يُتخيل.” وبما أن الصور التوليدية أصبحت واقعية إلى درجة التماهي، فإننا ندخل مرحلة جديدة من الإدراك، حيث لا يعود المشاهد قادرًا على التمييز بين الحقيقة والتخييل.

حشد من الناس يشاهدون شاشات ضخمة تبث صورًا زائفة لحدثٍ مختلق، والدهشة تُخفي خلفها تصديقًا جماعيًا
حشد من الناس يشاهدون شاشات ضخمة تبث صورًا زائفة لحدثٍ مختلق، والدهشة تُخفي خلفها تصديقًا جماعيًا
من التحليل إلى التمرير

في هذا العالم البصري، لم يعد التحليل مطلوبًا. فالنظام الرقمي يُكافئ السرعة لا العمق. الناس تمرّ على الصورة كما تمرّ على العناوين. حتى المؤسسات الأكاديمية بدأت تتأثر بهذا الإيقاع؛ الطلبة يفضلون “الفيديو التفسيري” بدل المقال، والباحثون ينشرون “ملخّصات مرئية” بدل الدراسات.

الذكاء الاصطناعي ساهم في تسريع هذا التحول، إذ يمكنه اليوم تحويل أي فكرة إلى سلسلة من الصور أو الرسوم البيانية المبهرة. لكن في المقابل، يُقصي عملية التفكير التحليلي التي كانت تتطلب وقتًا لفهم العلاقات بين المعطيات. الصورة تعطي النتيجة دون أن تُظهر الطريق إليها.

إنها ثقافة “التمرير السريع” التي تستهلك المعلومة كمنتج بصري، لا كتجربة فكرية. ومع الوقت، يصبح المشاهد متلقّيًا سلبيًا لما يُعرض أمامه، فاقدًا القدرة على الربط، على السؤال، على الشك.

المعرفة البصرية وتحوّل الوعي

المفارقة أن الإنسان لطالما حلم بأن “يرى” أكثر، لكنه حين تحقق له ذلك، صار “يفكر” أقل. فالصورة تُغني عن الوصف، لكنها تُفقِد المعنى. فحين ترى مشهدًا كاملاً في لحظة، تفقد المسافة التي تتيح لك التفكير فيه.

يقول عالم الاجتماع الفرنسي “بيير بورديو”: “المسافة شرط الفهم.” والصورة، بطبيعتها، تُلغي المسافة بينك وبين الشيء، تجعلك داخله مباشرة، دون وقتٍ للتأمل أو نقد ما تراه. هذه المباشرة الدائمة تجعل الوعي البشري أكثر سطحية، لأنه يعيش في حضورٍ دائم لا يسمح بالتأمل.

الخطر على التاريخ والعقل النقدي

الصور التوليدية تهدد اليوم الوثيقة التاريخية ذاتها. يمكن للذكاء الاصطناعي أن ينتج صورًا لأحداث لم تقع، لكنها تنتشر بسرعة لتصبح “ذاكرة جماعية”. وهكذا، يتحول التاريخ من سردٍ نقدي إلى “معرض صور” يتشكل حسب ما يُنتجه الذكاء الاصطناعي.

لقد بدأنا نعيش في “عصر الذاكرة المصطنعة”. فالصورة التي تنتشر اليوم قد تُصبح بعد سنوات دليلًا في أرشيف المستقبل، حتى لو كانت غير حقيقية. وهنا يختفي دور المؤرخ والمحلل، لتحل محله الخوارزمية التي تُقرر ما يُرى وما يُنسى.

يقول المؤرخ “يوفال نوح هراري”: “من يملك البيانات يملك المستقبل.” ويمكن أن نضيف اليوم: من يملك الصور، يملك الذاكرة.

مقاومة الصمت

أمام هذا الطوفان البصري، ربما تكون المقاومة الحقيقية هي العودة إلى الكلمة، إلى الفكرة، إلى بطء التحليل. أن نعيد النظر في ما نراه قبل أن نصدقه، وأن نكتب من جديد كمن يحاول الإمساك بالمعنى وسط زحمة الألوان.

الصورة ليست شرًا بذاتها، لكنها تحتاج إلى عقلٍ يحاورها، لا إلى عينٍ تستهلكها. فالعقل التحليلي لم يمت بعد، لكنه يختنق تحت ضجيج المشاهد.

في النهاية، السؤال ليس إن كانت الصورة ستنتصر على الكلمة، بل إن كان الإنسان سيظل قادرًا على رؤية ما وراء الصورة. فالمعرفة ليست ما يُرى، بل ما يُفهم من الرؤية.

“في عصرٍ تُغلق فيه الصورة كل سؤال، يصبح التفكير هو الفعل الأكثر جرأة.”

اقرأ أيضًا: نهاية التخصّص.. هل يحل النموذج الشامل محل الإنسان المتخصص؟

  • Related Posts

    العقل الجماعي يصغر.. والقرارات تُتخذ على مستوى النموذج

    AI بالعربي – متابعات من الحكمة الجماعية إلى التنبؤ الخوارزمي لطالما اعتُبر “العقل الجماعي” أحد أعظم مكتسبات الإنسانية الحديثة. من المجالس القديمة إلى المنتديات الرقمية، بُنيت فكرة التقدّم على المشاركة،…

    التسويق الشخصي المؤتمت.. عندما يصبح طموحك منتجًا رقميًا

    AI بالعربي – متابعات الإنسان كعلامة تجارية في عصر الخوارزميات لم يعد “التسويق الشخصي” مهارة فرعية ضمن عالم الأعمال، بل أصبح شرطًا أساسيًا للوجود المهني في العصر الرقمي. ومع صعود…

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    مقالات

    الذكاء الاصطناعي أَضحى بالفعل ذكيًا

    • نوفمبر 10, 2025
    • 73 views
    الذكاء الاصطناعي أَضحى بالفعل ذكيًا

    في زمن التنظيمات: هل تستطيع السعودية أن تكتب قواعد لعبة الذكاء الاصطناعي؟

    • نوفمبر 8, 2025
    • 78 views
    في زمن التنظيمات: هل تستطيع السعودية أن تكتب قواعد لعبة الذكاء الاصطناعي؟

    “تنانين الذكاء الاصطناعي” في الصين وغزو العالم

    • أكتوبر 30, 2025
    • 106 views
    “تنانين الذكاء الاصطناعي” في الصين وغزو العالم

    الذكاء الاصطناعي في الحياة المعاصرة.. ثورة علمية بين الأمل والمخاطر

    • أكتوبر 12, 2025
    • 257 views
    الذكاء الاصطناعي في الحياة المعاصرة.. ثورة علمية بين الأمل والمخاطر

    حول نظرية القانون المشتغل بالكود “الرمز” Code-driven law

    • أكتوبر 1, 2025
    • 347 views
    حول نظرية القانون المشتغل بالكود “الرمز” Code-driven law

    الإعلام.. و”حُثالة الذكاء الاصطناعي”

    • سبتمبر 29, 2025
    • 357 views
    الإعلام.. و”حُثالة الذكاء الاصطناعي”