AI بالعربي – متابعات
الجمال بين الفن والخوارزمية
لطالما كان الجمال أحد أكثر المفاهيم عصيانًا على التحديد. الشعراء حاولوا الإمساك به بالكلمات، والفلاسفة بحثوا عنه في التناسق والمعنى، والفنانون جسّدوه في اللون والصوت والحركة. لكن في زمن الذكاء الاصطناعي، صار الجمال رقمًا — قيمة قابلة للقياس، يمكن للنظام أن يحسبها كما يحسب المسافة أو السرعة.
إنها مفارقة العصر: أن يتحوّل الجمال، هذا المفهوم الغامض الذي يستعصي على المنطق، إلى “معادلة” يبتكرها الذكاء الاصطناعي، تُنتج صورًا ولوحات ونغمات توصف بأنها جميلة، دون أن تكون قد خرجت من تجربة شعورية.
يقول عالم الجماليات البريطاني “روجر سكروتن”: “الجمال وعدٌ بالمعنى.” لكن ماذا يحدث حين يصير المعنى نفسه ناتجًا حسابيًا؟

من الحدس إلى الحساب
حين نكتب كلمة “جميل” على محرك الصور التوليدية، يقدم لنا الذكاء الاصطناعي نماذج متكررة لوجوه متناظرة، غروبٍ هادئ، أو طبيعة خضراء ناعمة الإضاءة. لقد تعلّم النظام أن هذه الأنماط هي “رموز الجمال” التي يفضلها البشر. لكنه لا يعرف لماذا نراها جميلة.
فالجمال، في الأصل، تجربة إنسانية تقوم على التفاعل العاطفي والثقافي. لكن النماذج التوليدية لا تملك هذا الوعي. إنها تتعلم من ملايين الصور المقيّمة على أنها “جميلة”، ثم تستخلص منها خوارزمية تحدد ملامح الجمال المثالي: التناسق، التوازن، الإضاءة المتناغمة، والانسجام اللوني.
هكذا يُختزل الجمال من تجربة إلى نمط، ومن انفعال إلى معادلة. ومع الوقت، يبدأ الذكاء الاصطناعي في إعادة إنتاج الصورة ذاتها بألف شكل مختلف، حتى يفقد الجمال معناه الأصلي، ويصبح مجرد نمط مألوف يُرضي العين دون أن يُحرّك الروح.
هل يمكن برمجة الذوق؟
في مشاريع بحثية حديثة، حاول العلماء تطوير أنظمة “تقييم جمالي” قادرة على تحديد مدى جمال الصورة أو التصميم بنسبة رقمية. تُقاس الزوايا، ونسب الألوان، وتوازن الإضاءة، ثم تُعطى الصورة “درجة الجمال”. والنتائج مذهلة بقدر ما هي مقلقة: الآلة بدأت تنافس النقاد، بل وتتفوق عليهم أحيانًا في التنبؤ بما سيعتبره الجمهور جميلًا.
لكن، هل يعني هذا أن الذكاء الاصطناعي أصبح يملك “ذوقًا”؟
الجواب لا. فالذوق ليس مجرد تفضيل بصري، بل مزيج من الذاكرة والتجربة والثقافة. ما يراه طفلٌ جميلًا قد يختلف عمّا يراه شيخ، وما تراه ثقافةٌ مهيمنة قد يختلف عمّا تراه ثقافة الهامش. الذكاء الاصطناعي، في المقابل، لا يملك ثقافة، بل فقط قاعدة بيانات ضخمة.
تقول الباحثة في فلسفة التقنية “كيت كروفورد”: “كل خوارزمية للجمال هي انعكاس لذوق من درّبها.” وبالتالي، فإن معادلة الجمال ليست محايدة، بل محمّلة بأذواق المجتمعات التي تنتج البيانات.

الجمال الصناعي والخطر الخفي
الصور التي ينتجها الذكاء الاصطناعي تُدهشنا بدقتها وجمالها الظاهري، لكنها تُرسّخ في وعينا نموذجًا موحدًا لما ينبغي أن يكون جميلًا. ومع الوقت، يتراجع التنوع البشري، وتُقصى الاختلافات التي كانت تصنع الجمال الحقيقي.
فالجمال البشري، مثل الحياة، يقوم على النقص. الملامح غير المتناظرة، الصوت المتردد، اللون الذي يخرج عن القاعدة — كل ذلك هو ما يمنح الشيء فرادته. أما الخوارزمية، فهي لا تعرف النقص، بل تصحّحه. وفي كل تصحيح، تمحو شيئًا من الحقيقة.
لقد بدأ بعض الفنانين المعاصرين يرفضون استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي في إنتاج الفن، لأنهم يرون أنها “تُعقّم” الجمال. أحدهم قال: “الذكاء الاصطناعي لا يُخطئ، ولهذا لا يُبدع.” فالإبداع يحتاج إلى خطأ، إلى مفاجأة، إلى انحرافٍ عن المألوف.
الجمال بين الإحساس والمعرفة
الجمال عند الإنسان ليس مجرد إدراك بصري، بل تجربة وجودية. حين ترى لوحة أو تسمع مقطوعة موسيقية، لا تتفاعل مع الشكل فقط، بل مع النية، مع أثر الإنسان الذي ترك بصمته هناك. الجمال هو لحظة لقاء بين ذاتين: المبدع والمتلقي.
لكن حين تُنتج الخوارزمية العمل، يختفي هذا البعد الإنساني. فليس هناك نية، ولا تجربة، ولا ذاكرة. هناك فقط احتمال إحصائي. ومع ذلك، ينجذب الناس إلى جمال هذه الصور لأنها تحقق لهم نموذج الكمال الذي لم تستطع الطبيعة تحقيقه.
إننا نعيش زمن “الجمال المحسوب”، حيث يُختزل الشعور في النسبة الذهبية، والإعجاب في التكرار. وحين يصبح الجمال سهلًا وسريعًا، يفقد جزءًا من سحره الغامض الذي جعله لقرون موضوعًا للتأمل لا للبرمجة.
هل انتهى الفن؟
البعض يرى في هذا التحول نهاية للفن كما عرفناه. فإذا كان بالإمكان توليد لوحة على طراز “فان غوخ” أو “دافنشي” في ثوانٍ، فما الحاجة إلى الفنان؟ لكن الحقيقة أكثر تعقيدًا. فالفن ليس في النتيجة، بل في الرحلة. ليس في الصورة، بل في النظرة التي أنتجتها.
الذكاء الاصطناعي قد يُقلّد الأسلوب، لكنه لا يستطيع أن يعاني كما عانى الفنانون الحقيقيون. فكل عمل فني هو نتيجة تجربة إنسانية، وليس مجرد تكرار لنمط بصري. وحتى لو استطاعت الخوارزمية أن تُنتج عملًا جميلاً، فإنها لا تعرف لماذا هو جميل، ولا لمن هو موجّه.

معادلة الجمال في الثقافة العربية
في السياق العربي، يتخذ السؤال بُعدًا أعمق. فالجمال في تراثنا ليس فقط حسّيًا، بل روحي ومعنوي. الجمال في الشعر الجاهلي هو الفروسية والكرم بقدر ما هو الوصف، وفي التصوف هو “تجلّي الحق في الصورة”. فهل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُدرك هذا البُعد الرمزي؟
حين تُنتج الخوارزمية لوحة لقصيدة المتنبي أو مشهدًا من “ألف ليلة وليلة”، فهي تفعل ذلك عبر تحليل لغوي، لا عبر حسٍّ جمالي. تلتقط الرموز ولا تفهم الأسرار. وربما لهذا، تبدو الصور التوليدية جميلة شكلاً، لكنها تفتقد “الروح” التي تنبض في الفن الإنساني.
الجمال كفعل مقاومة
أمام هذا الواقع، ربما يكون أجمل ما يمكن للإنسان أن يفعله هو أن يُخطئ عمدًا. أن يرسم خارج الخطوط، أن يكتب جملة غير متوقعة، أن يلتقط صورة غير مثالية. فالمقاومة الحقيقية للذكاء الاصطناعي ليست في رفضه، بل في استعادة الفوضى الإنسانية التي لا يمكن تقليدها.
يقول الفيلسوف الياباني “كيغو ناكامورا”: “الجمال الحقيقي لا يُحسب، بل يُشعر.”
وهذا ما يجعل الإنسان — لا الخوارزمية — مصدر الفن الأبدي.
إن الذكاء الاصطناعي قد يبرع في صناعة الجمال، لكنه لا يعرف كيف يُحبه. وحين يتحول الجمال إلى معادلة، يفقد القدرة على إلهامنا، لأن الإلهام لا يُولد من الكمال، بل من الافتتان بالنقص.
في النهاية، سيظل الجمال لغزًا، مهما حاولت الخوارزميات تفسيره. فكل ما يمكن للنظام أن يفعله هو أن ينسخ ما نراه جميلًا، لكنه لن يستطيع أبدًا أن يشعر بما نشعر به حين نقف أمام غروبٍ صامت، أو وجهٍ نحبه، أو لوحةٍ رسمها قلبٌ لا آلة.
“الجمال ليس ما تراه العين، بل ما تُعيد الروح اكتشافه.”
اقرأ أيضًا: الصورة كمعلومة نهائية.. نهاية العقل التحليلي؟








