نهاية التخصّص.. هل يحل النموذج الشامل محل الإنسان المتخصص؟

AI بالعربي – متابعات
عصر الذكاء الشامل

لم يعد السؤال اليوم عمّا يستطيع الذكاء الاصطناعي فعله، بل عمّا لا يستطيع فعله بعد. فبينما كان العلم طوال القرون الماضية يتجه نحو التخصّص الدقيق — في الطب، والهندسة، واللغة، والاقتصاد — تأتي النماذج اللغوية الحديثة لتعيد صياغة المنظومة بأكملها، متجاوزة الحدود التي رسمها الإنسان بين التخصصات. النموذج الشامل، القادر على كتابة الشعر، وتشخيص المرض، وبرمجة التطبيقات، وصياغة العقود القانونية، يبدو وكأنه النسخة الرقمية للعقل الكلي الذي حلم به الفلاسفة منذ قرون.

لقد أصبحنا أمام كائن رقمي يعرف عن كل شيء شيئًا، وعن أشياء كثيرة أكثر مما يعرفها المتخصص نفسه. وهنا يبرز السؤال الأخلاقي والمستقبلي: هل نحن أمام نهاية “الخبير” كما عرفناه؟ وهل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحلّ محل الإنسان المتخصص، لا في العمل فقط، بل في المعرفة ذاتها؟

نهاية التخصّص.. هل يحل النموذج الشامل محل الإنسان المتخصص؟
نهاية التخصّص.. هل يحل النموذج الشامل محل الإنسان المتخصص؟
من التجزئة إلى التوليف

تاريخ الفكر الإنساني هو تاريخ التجزئة. كل اكتشاف جديد كان يقود إلى تخصّص أدق، وكل تخصص كان يخلق عالِمًا جديدًا يعرّف نفسه ضمن حدود معرفية ضيقة. أما الذكاء الاصطناعي المعاصر فيتحرك بعكس هذا الاتجاه تمامًا. فهو لا “يتخصص” في مجال واحد، بل “يولّف” بين آلاف الحقول في لحظة واحدة.

إن النموذج اللغوي الكبير لا يفرّق بين الفيزياء والفلسفة أو بين القانون واللسانيات. كل هذه المجالات بالنسبة له مجرد بيانات لغوية وأنماط احتمالية يمكن دمجها وصياغتها في نص واحد متماسك. وهنا يحدث الانقلاب: لم تعد المعرفة مقسّمة بين خبراء، بل مُمكنة في كيان واحد قادر على الربط بين الطب والموسيقى والبرمجة في فقرة واحدة.

كما يقول الباحث الكندي “غاري ماركوس”: “الذكاء الاصطناعي لا يعرف التخصص، بل يعرف العلاقة.” فهو يتعلم من الروابط، لا من الفروع، ويستنتج من الترابط لا من الانعزال.

الخطر الذي يهدد المهنة والمعرفة معًا

في عالمٍ يعتمد على الكفاءة والسرعة، يبدو النموذج الشامل مغريًا لدرجة الخطر. فالشركات التي كانت تحتاج إلى فرق من المحللين والمحررين والمترجمين، باتت تكتفي بنموذج واحد يُنجز المهام كلها دفعة واحدة. في دقائق، يمكنه إعداد تقرير مالي، وملخص قانوني، وحملة تسويقية بلغة إنجليزية راقية، مع ترجمة عربية احترافية — بلا اجتماع واحد ولا إشراف بشري فعلي.

لكن وراء هذا الانبهار التقني، يكمن سؤال مقلق: ماذا يحدث حين تختفي الخبرة الإنسانية التي بُنيت عبر عقود؟ حين يتحول الطبيب إلى “مراجع نتائج”، والمهندس إلى “مراقب خوارزمية”، والمترجم إلى “محرّر تلقائي”؟

تقول الباحثة في علم الاجتماع الرقمي “إلين برينر”: “الخطر الحقيقي ليس في أن الآلة ستأخذ عملنا، بل في أن تجعلنا ننسى كيف كنّا نعمل.” فبقدر ما تعتمد المؤسسات على النماذج الشاملة، تفقد تدريجيًا الحاجة إلى المهارة الفردية التي تميز الإنسان المتخصص.

طبيب يجلس أمام شاشة يظهر فيها نموذج ذكائي يكتب تقريرًا طبيًا بينما الطبيب يكتفي بالموافقة عليه
طبيب يجلس أمام شاشة يظهر فيها نموذج ذكائي يكتب تقريرًا طبيًا بينما الطبيب يكتفي بالموافقة عليه
تآكل حدود الهوية المهنية

في السابق، كان العمل هو ما يعرّف الإنسان. الطبيب طبيب لأنه يفكر بطريقة الطبيب، والكاتب كاتب لأنه يملك حسّ اللغة ووعيًا بالسياق. أما اليوم، فإن الذكاء الاصطناعي يكتب، ويحلّل، ويقيس، ويفسّر، دون أن يملك هوية مهنية واحدة.

هذه “اللامركزية المعرفية” لا تُربك فقط سوق العمل، بل تهزّ مفهوم الهوية ذاته. ماذا يعني أن تكون خبيرًا إذا كانت الآلة تعرف أكثر منك؟ ما قيمة التخصص إن كان النظام يستطيع أن يجمع كل التخصصات في لحظة واحدة؟

يقول الفيلسوف الألماني “بيتر سلوتردايك”: “كل حقبة تُعرّف الإنسان بما يجهله، لا بما يعرفه.” فإذا كانت الآلة قد أصبحت تعرف كل شيء، فربما سيُعاد تعريف الإنسان من خلال ما لا تستطيع الآلة أن تفعله — أي الإبداع، التأمل، المعنى.

المعرفة كمزيج لا كاختصاص

الذكاء الاصطناعي لا “يفكّر” مثل المتخصصين، بل “يمزج” بين المعارف المختلفة لإنتاج معرفة جديدة. وهذا ما يمنحه قوة خارقة في حل المشكلات المعقدة. فحين تُسأله عن تطوير لقاح أو تخطيط مدينة، لا يفكر بطريقة الطبيب أو المهندس فقط، بل بطريقة تجمع الإحصاء واللغويات وعلم النفس والاقتصاد السلوكي.

لكن هذه القدرة التوليفية تأتي بثمنٍ باهظ: ضياع العمق لحساب الاتساع. فالنموذج قد يعطيك إجابة مذهلة وسريعة، لكنها قائمة على احتمالات لغوية لا على فهمٍ علمي حقيقي. ومع تكرار الاعتماد عليه، تصبح “المعرفة السطحية الشاملة” بديلاً عن “المعرفة المتعمقة المتخصصة”.

شبكة فكرية تربط بين مفاهيم متعددة مثل الطب، القانون، الفن، الاقتصاد، وتلتقي كلها في مركز واحد يحمل رمز الذكاء الاصطناعي.
شبكة فكرية تربط بين مفاهيم متعددة مثل الطب، القانون، الفن، الاقتصاد، وتلتقي كلها في مركز واحد يحمل رمز الذكاء الاصطناعي.
الإنسان بين المساعد والمنافس

في المراحل الأولى من الثورة الرقمية، كان يُقال إن الذكاء الاصطناعي سيبقى “مساعدًا للإنسان”. لكن النماذج الشاملة اليوم بدأت تتصرف كـ “منافسين” فعليين، خصوصًا في المجالات القائمة على التحليل والمراجعة والتوليد اللغوي. في مؤسسات الإعلام، والبحث العلمي، وحتى في التعليم، لم يعد السؤال: هل نستخدم الذكاء الاصطناعي؟ بل: كم نحتاج من البشر بعد استخدامه؟

بعض الجامعات بدأت تستبدل المساعدين الأكاديميين بأنظمة توليد آلي للبحوث والمراجع. وبعض المكاتب القانونية أصبحت تعتمد على أدوات ذكاء اصطناعي لصياغة العقود ومراجعتها في دقائق، وهو ما كان يتطلب فريقًا من المحامين الشباب.

ومع ذلك، لا يمكن تجاهل أن هذه الأدوات قد تكون محررًا عظيمًا للإبداع البشري. فحين يتولى النظام المهام الميكانيكية، يمكن للعقل البشري أن يتفرغ للتأمل والابتكار. لكن هذا التفاؤل المشروط يتوقف على وعي المستخدم، وعلى قدرة المؤسسات على رسم حدود أخلاقية واضحة.

من التخصّص إلى التعلّم المستمر

التاريخ يُعلّمنا أن كل ثورة تقنية تُعيد تعريف “الخبرة”. فحين ظهرت الطباعة، خشي الكتّاب على مهنتهم. وحين ظهرت الآلة الحاسبة، قيل إن الحساب الذهني سينقرض. لكن ما حدث هو أن الإنسان طوّر نوعًا جديدًا من التخصص: تخصص في استخدام التقنية.

وربما يكون التخصّص القادم هو “إدارة المعرفة الاصطناعية”. أي أن المتخصص لن يكون من يعرف الطب أو القانون فقط، بل من يعرف كيف يوجّه الذكاء الاصطناعي في خدمة هذه المجالات، ويعرف أين يتوقف عن الاعتماد عليه.

يقول عالم المستقبليات “توماس فري”: “في المستقبل، لن تُقاس قيمة الإنسان بما يعرف، بل بما يستطيع أن يسأل.” وهذه العبارة تختصر المرحلة القادمة: المتخصص لن يكون خزان معرفة، بل صانع أسئلة ذكية.

النموذج الشامل وحدود الفهم

مع كل التقدم الذي أحرزته النماذج الحديثة، ما زالت عاجزة عن الفهم الحقيقي. فهي تعرف الأنماط، لكنها لا تعرف المعنى. تعرف الجمل، لكنها لا تدرك التجربة. الطبيب يعرف الألم لأنه رآه وعاشه مع مرضاه، أما النموذج فيعرف الألم كمفردة لغوية.

وهنا تكمن الفجوة التي تجعل الإنسان — رغم كل شيء — ضروريًا. فالمعرفة ليست فقط بيانات، بل موقف إنساني من الواقع. إنها تتطلب وعيًا، ومسؤولية، وحدسًا أخلاقيًا، وهي عناصر لا يمكن اختزالها في خوارزمية.

وجه إنسان يقابله وجه ذكائي مكوّن من رموز وشيفرات، بينهما مرآة تعكس مزيجًا من الاثنين.
وجه إنسان يقابله وجه ذكائي مكوّن من رموز وشيفرات، بينهما مرآة تعكس مزيجًا من الاثنين.
من “الخبير” إلى “المُنظّم”

في عالم ما بعد التخصّص، لن يكون دور الإنسان هو الإحاطة بكل التفاصيل، بل تنظيم العلاقة بين التفاصيل. سيتحوّل الطبيب إلى مفسّر لتقارير الذكاء الاصطناعي، والكاتب إلى مُحرّر للنصوص الآلية، والمهندس إلى مصممٍ لتصوّرات تعمل بها النماذج.

بهذا المعنى، سيبقى الإنسان في قلب العملية، لكن ليس بصفته “العالم الوحيد”، بل “المنسّق الأعظم” بين العوالم. إنها عودة إلى نوعٍ من التخصص الميتافيزيقي: الإنسان بوصفه من يمنح المعنى لما تنتجه الآلة.

عندما تصبح الشمولية خطرًا

الذكاء الشامل، بقدر ما يبدو مثاليًا، يحمل خطرًا فلسفيًا عميقًا: إنه يميل إلى “التسطيح”. فحين تُختزل جميع المعارف في صيغة لغوية موحّدة، تضيع الفروق الدقيقة بين الثقافات والمناهج والتجارب. يصبح الطب مثل القانون مثل الأدب — مجرد بيانات يمكن توليدها.

هذا التوحيد المفرط قد يؤدي إلى فقدان التنوع الفكري الذي ميّز الحضارات. فالعقل البشري تطوّر من خلال التخصّص والتنوع، لا من خلال التماثل. أما النموذج الشامل، فهو عقل واحد يتحدث بلغات كثيرة لكنه يحمل رؤية واحدة: رؤية الخوارزمية.

العودة إلى الإنسان

ربما لا تكون “نهاية التخصّص” نذيرًا بالانقراض، بل بدايةً لوعيٍ جديد بالإنسان نفسه. ففي اللحظة التي تدرك فيها الآلة كل شيء، يعود الإنسان إلى سؤال المعنى: لماذا نعرف؟ ولمن نعرف؟

إن النموذج الشامل يمكنه أن يقدّم المعرفة، لكنه لا يستطيع أن يمنحنا الحكمة. يمكنه أن يُجيب، لكنه لا يستطيع أن يفهم السؤال. وهذا ما سيبقي للإنسان مكانته — لا بوصفه عقلًا أكبر، بل وعيًا أعمق.

في النهاية، ربما تكون الرسالة التي يوجهها هذا العصر إلينا بسيطة وعميقة في آنٍ واحد:

“المعرفة بلا إنسان مجرد نظام، والإنسان بلا معرفة مجرد صوت.”

وهكذا، بينما تتوسع النماذج لتغزو كل مجال، تبقى القيمة الكبرى في أن نُحسن استخدامها دون أن ننسى من نحن وسط هذا الضجيج المعرفي الهائل.

اقرأ أيضًا: كتابة بلا تفكير.. أثر المحتوى السريع على الوعي اللغوي

  • Related Posts

    المرحلة الجديدة للاستثمار في الذكاء الاصطناعي العربي من التقنية إلى الثقافة الرقمية

    AI بالعربي – متابعات يشهد مشهد الاستثمار الجريء في المنطقة العربية تغيرًا ملحوظًا في موازين القوة. فبينما كانت التقييمات المرتفعة حكرًا على الشركات المتقدمة في مراحل التوسع، تشهد الآن الشركات…

    “السعودية” توظف الذكاء الاصطناعي في الغذاء والزراعة لتحقيق الاستدامة والأمن الغذائي

    AI بالعربي – متابعات أطلقت وزارة البيئة والمياه والزراعة منصتين رقمية جديدتين عبر منصة “نما”، لتوظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي في تطوير سلاسل إمداد الغذاء البروتيني والإنتاج الزراعي المستدام. جاء الإعلان…

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    مقالات

    الذكاء الاصطناعي أَضحى بالفعل ذكيًا

    • نوفمبر 10, 2025
    • 73 views
    الذكاء الاصطناعي أَضحى بالفعل ذكيًا

    في زمن التنظيمات: هل تستطيع السعودية أن تكتب قواعد لعبة الذكاء الاصطناعي؟

    • نوفمبر 8, 2025
    • 78 views
    في زمن التنظيمات: هل تستطيع السعودية أن تكتب قواعد لعبة الذكاء الاصطناعي؟

    “تنانين الذكاء الاصطناعي” في الصين وغزو العالم

    • أكتوبر 30, 2025
    • 106 views
    “تنانين الذكاء الاصطناعي” في الصين وغزو العالم

    الذكاء الاصطناعي في الحياة المعاصرة.. ثورة علمية بين الأمل والمخاطر

    • أكتوبر 12, 2025
    • 257 views
    الذكاء الاصطناعي في الحياة المعاصرة.. ثورة علمية بين الأمل والمخاطر

    حول نظرية القانون المشتغل بالكود “الرمز” Code-driven law

    • أكتوبر 1, 2025
    • 347 views
    حول نظرية القانون المشتغل بالكود “الرمز” Code-driven law

    الإعلام.. و”حُثالة الذكاء الاصطناعي”

    • سبتمبر 29, 2025
    • 357 views
    الإعلام.. و”حُثالة الذكاء الاصطناعي”