AI بالعربي – متابعات
الإنسان كعلامة تجارية في عصر الخوارزميات
لم يعد “التسويق الشخصي” مهارة فرعية ضمن عالم الأعمال، بل أصبح شرطًا أساسيًا للوجود المهني في العصر الرقمي. ومع صعود الذكاء الاصطناعي وأدوات التخصيص الفائقة، لم يعد الفرد يسوّق لنفسه فقط، بل تُسوّقه الخوارزميات بالنيابة عنه — تُعيد صياغة طموحاته، وتحوّل شخصيته إلى منتج رقمي له هوية قابلة للبيع والقياس.
إننا نعيش في زمن تتقاطع فيه الذات مع التسويق؛ حيث يتحوّل الطموح الشخصي إلى سلعة، والسيرة الذاتية إلى واجهة تفاعلية تحللها أنظمة التنبؤ لتقرر من ينجح ومن يُهمَّش.

من الترويج إلى التوليد
في الماضي، كان التسويق الشخصي يعتمد على المبادرة البشرية: كتابة السيرة الذاتية، بناء شبكة علاقات، التواجد في الأحداث المهنية. أما اليوم، فقد تولّت الخوارزميات المهمة. تطبيقات الذكاء الاصطناعي تكتب سيرتك بطريقة محسّنة لمحركات البحث، وتُنتج محتوى يعكس “صورتك المثالية” أمام الجمهور، وتُدير تفاعلاتك على المنصات بأسلوب متّسق مع شخصيتك الرقمية.
لكن هذا التخصيص المؤتمت يطرح سؤالًا جوهريًا: هل ما نراه من المحتوى الذاتي اليوم يعكس الإنسان الحقيقي، أم الصورة التي اختارتها له الخوارزمية؟
لقد أصبح كل منشور، وكل صورة، وكل تفاعل عبر الإنترنت جزءًا من عملية تسويق مستمرة، تُدار جزئيًا بواسطة أدوات لا يدرك صاحبها آليات عملها بالكامل. ومع الوقت، يتراجع حضور الذات الأصيلة لصالح الذات المحسّنة، تلك التي صمّمتها المعادلات لتنال أكبر قدر من التفاعل.
خوارزميات الطموح
تسعى الخوارزميات اليوم إلى “توقّع” طموحك قبل أن تعبّر عنه. فأنظمة تحليل السلوك المهني، مثل تلك التي تعتمدها المنصات الوظيفية الكبرى، أصبحت قادرة على رسم مسار مهني شبه مثالي بناءً على بيانات آلاف الأشخاص المشابهين لك.
بكلمة أخرى، لم تعد تطمح بحرية مطلقة، بل ضمن خريطة احتمالية يرسمها لك النظام.
ولأن هذه الخريطة مبنية على بيانات السوق لا على الرغبة الإنسانية، فإنها تدفع الأفراد إلى تبنّي أهداف “قابلة للقياس”، لا “ذات معنى”.
تقول الباحثة “إميلي بندر” من جامعة واشنطن: “الخطر ليس أن الآلة تفكر بدلاً عنا، بل أنها تجعلنا نفكر مثلها.”
حين تصبح أحلامنا نفسها خاضعة لمنطق الكفاءة الرقمية، يفقد الطموح إنسانيته، ويغدو مشروعًا تسويقيًا محسوب العائد.

الشخصية المؤتمتة
لم يعد الذكاء الاصطناعي ينتج الإعلانات فقط، بل يصنع “الهوية التسويقية” للفرد.
من خلال أدوات مثل ChatGPT وClaude وSynthesia، يمكن لأي شخص اليوم أن يصنع نسخة رقمية منه تتحدث نيابة عنه، وتقدّم خدماته، وتبني سمعته المهنية على مدار الساعة.
لكن ماذا يحدث حين تتفوّق النسخة الرقمية على الأصل؟
حين تبدأ الخوارزمية بكتابة محتوى أكثر ذكاءً منك، وتصمّم حملات أكثر إقناعًا، وتتحدث بثقة أكثر من صوتك الحقيقي؟
عندها يصبح الإنسان مجرّد مُشرف على مشروع تسويق ذاته، لا صاحب التجربة.
لقد باتت “الأصالة” قيمة نادرة في عالمٍ يتجه نحو الإنتاج الآلي للهوية. فبدل أن نسأل “من أنا؟”، أصبح السؤال الأهم هو “كيف أبدو؟” و“كيف يراني النظام؟”.
اقتصاد الذات
أدى التحول نحو التسويق المؤتمت إلى ظهور اقتصاد جديد قائم على الذات كسلعة.
الفرد اليوم يُقاس بعدد متابعيه، بمدى تفاعله، وبمستوى “قابليته للعلامة التجارية”. حتى في البيئات الأكاديمية والمهنية، بدأت الأنظمة تعتمد على “مؤشرات التأثير” المولّدة آليًا لتقييم الأفراد، مما يجعل النجاح الشخصي مرهونًا بمدى توافقك مع منطق الخوارزمية.
يقول عالم الاجتماع الفرنسي “جيل ليبوفتسكي”: “تحوّل الإنسان من منتج للسلع إلى سلعة تنتج نفسها.”
وهذا ما يجعل من التسويق الشخصي المؤتمت أكثر من مجرد أداة — إنه نظام وجود جديد يختزل الذات في بيانات.

تسليع الطموح الإنساني
في هذا النظام، لم يعد الطموح تجربة داخلية، بل منتجًا رقميًا. تطبيقات “التحفيز الذاتي” و“إدارة الأهداف” و“تحليل الكفاءة” تحوّل الرغبة في التقدم إلى بيانات قابلة للتتبع والمقارنة. ومع كل تحديث للملف الشخصي، يُعاد تسويق الفرد كمنتج محدث الإصدار.
لكن الخطر أن يتحوّل الطموح من رغبة في النمو إلى خوف من التراجع. فالنظام لا يكافئ السكون، بل النشاط المستمر. ومن يتوقف عن التحديث، يختفي من الخوارزمية.
لقد أصبح الطموح نفسه قابلًا للجدولة، تُنظمه أدوات إدارة الوقت، وتغذيه توصيات الذكاء الاصطناعي. حتى الحلم صار يحتاج إلى “تحليل بيانات” ليتحقق.
من الذات إلى العلامة
إن أحد أخطر مظاهر التسويق المؤتمت هو ذوبان الفاصل بين “الذات” و“العلامة”. فالمهارات، والهوايات، وحتى القيم الشخصية، باتت تُقدَّم في قالب قابل للعرض والبيع. وفي هذه العملية، تفقد الذات طابعها الإنساني وتتحول إلى واجهة أداء.
الذكاء الاصطناعي يضبط الإيقاع، والإنسان يتكيّف مع هذا الإيقاع ليبقى مرئيًا. ومع الوقت، يصبح التسويق المؤتمت مرآةً رقمية تعكس ما يجب أن نكون عليه، لا ما نحن عليه فعلاً.
الجانب الأخلاقي: من يملك الهوية؟
حين يتولّى الذكاء الاصطناعي إدارة حضورك الرقمي، من يملك هذه الهوية؟
هل هي ملكك، أم ملك المنصة التي تدير بياناتك وسلوكك؟
أسئلة الهوية والملكية والتمثيل تعود إلى الواجهة بقوة. فالمحتوى الذي تُنتجه الخوارزمية باسمك، هل يُنسب إليك؟
وإذا ارتكبت الآلة خطأً، هل يتحمّله صاحب الحساب أم النظام؟
القوانين لم تلحق بعد بتعقيد هذا الواقع، مما يجعل الإنسان محاصرًا بين رغبة في الانتشار وخوف من فقدان السيطرة على صورته.
الذكاء الاصطناعي كمرآة للذات
في العمق، يمكن النظر إلى التسويق المؤتمت كمرآة جديدة تكشف للإنسان ما يحب أن يكونه. فالخوارزمية لا تفرض الصورة من فراغ، بل تبنيها من تفضيلاتنا وسلوكنا وبياناتنا السابقة.
إنها تُعيد إلينا صورتنا، لكن بعد أن تُجمّلها وتُنسّقها وتُعيد صياغتها لتناسب السوق.
الذكاء الاصطناعي لا يختلق الطموح، بل يعيد تسويقه بطريقة تضمن استمرار النظام الإنتاجي الذي يستهلك حتى الذات. وهنا يكمن السؤال الفلسفي الأعمق: هل ما نفعله من تسويق لأنفسنا هو شكل من أشكال الحرية، أم العبودية الطوعية للبيانات؟
نحو إنسان رقمي كامل
في نهاية المطاف، يبدو أن الإنسان يتجه نحو حالة “الذات الرقمية الكاملة”، تلك التي تُراقَب وتُقاس وتُدار وتُسوق في الوقت نفسه. ومع ازدياد دقة النماذج التنبؤية، ستصبح هذه الذات أكثر اتساقًا، لكنها أقل تلقائية.
ربما سنصل إلى زمن يُقاس فيه الإبداع بمدى توافقه مع معايير الخوارزمية، ويُقيّم فيه الطموح بعدد المشاهدات، وتُختصر فيه الذات إلى ملف قابل للتنزيل.
ومع ذلك، ستبقى في الإنسان مساحة صغيرة عصيّة على الأتمتة — تلك اللحظة التي يحلم فيها بلا غاية، ويجرّب بلا هدف، ويبحث عن معنى لا يمكن بيعه أو ترويجه.
“في زمن التسويق المؤتمت، يصبح الحفاظ على إنسانيتك أعظم استثمار يمكنك القيام به.”
اقرأ أيضًا: عندما يختصر الذكاء الاصطناعي الجمال في معادلة








