AI بالعربي – متابعات
زمن الأخبار الاصطناعية
في عالمٍ تتسارع فيه الأخبار كوميضٍ متلاحق، لم تعد الحقيقة هي ما تُرويه الوقائع، بل ما تولّده الخوارزميات. أصبح الذكاء الاصطناعي يشارك الصحفي في غرفة الأخبار، لا كأداة مساعدة، بل كمحرّرٍ يبتكر “مصدره” حين لا يجد مصدرًا، ويعيد تركيب الحدث من شظايا بيانات متفرقة. في لحظةٍ واحدة، يمكن لنموذج لغوي ضخم أن يكتب تقريرًا كاملًا عن “حدثٍ” لم يقع بعد، مستندًا إلى أنماط التوقع والتكميل التلقائي، فينتج نصًا يشبه الحقيقة لكنه بلا جذور.
لقد دخلنا حقبة “الصحافة الاصطناعية”، حيث تُكتب القصص بناءً على ما قد يحدث لا ما حدث فعلًا. وهنا يتبدل مفهوم المصداقية من “التحقق من المعلومة” إلى “إقناع القارئ بصياغة مقنعة”.

ولادة المراسل الخوارزمي
في عام 2024، نشرت وكالة أنباء عالمية أول سلسلة تقارير سياسية كتبها بالكامل نموذج ذكاء اصطناعي دون أي تدخل بشري سوى مراجعة بسيطة في العنوان. حاز التقرير على آلاف المشاركات قبل أن يكتشف القرّاء أن الشخصيات المذكورة لا وجود لها أصلًا. كان النص متماسكًا، مليئًا بالاقتباسات والتواريخ والإحصاءات، لكن جميعها من إنتاج النموذج نفسه.
هذا الحدث لم يكن سابقة عابرة، بل مؤشّرًا على تحوّل عميق في طبيعة المهنة. فالمحرر الآلي قادر اليوم على جمع بيانات من آلاف المواقع، ثم “ملء الفراغات” بتخمينات منطقية. إنه لا يكذب عن قصد، لكنه يختلق الحقيقة من فراغ إحصائي. وكما قال الباحث الإعلامي الأميركي “جاي روزن”: “لم تعد المعلومة بحاجة إلى مصدر كي تُنشر، بل إلى خوارزمية كي تُنتج.”
المراسل الخوارزمي لا يحتاج إلى تصريح ولا إلى سفر ولا إلى انتظار تأكيد رسمي؛ إنه يكتب وفق احتمالات التكرار. وبذلك، يتحول الحدث الصحفي من واقعة زمنية إلى نمط لغوي قابل للتوليد في أي لحظة.
انهيار مبدأ “التحقق المزدوج”
كانت الصحافة التقليدية تبني صدقيتها على مبدأ “التحقق المزدوج”، أي ألا يُنشر خبر إلا بعد تأكيده من مصدرين مستقلين على الأقل. اليوم، يختصر الذكاء الاصطناعي هذه العملية إلى خطوة واحدة: “التحليل الإحصائي للمصداقية”. فإذا تشابهت المعلومات في عدة مصادر رقمية — حتى لو كانت جميعها مستنسخة من بعضها — اعتبرها النموذج “صحيحة”.
وهكذا، يتسرب الوهم إلى بنية الأخبار نفسها، لأن النموذج لا يدرك الفرق بين “المعلومة المتكررة” و“المعلومة المؤكدة”. إنه يقيس الصدق بتكرار النمط، لا بالوقائع. وهذا ما يجعل بعض التقارير تبدو منطقية جدًا رغم خلوها من أي أصل.

صحافة الاحتمال
الذكاء الاصطناعي لا “يعرف” الحقيقة، بل “يقدّرها”. حين يُسأل عن واقعة، يبحث في مخزونه اللغوي عن أكثر صيغة محتملة للإجابة، لا عن أكثرها صدقًا. إننا أمام نموذج احتمالي لا يدّعي الكذب، لكنه لا يستطيع قول الحقيقة أيضًا.
الصحافة في جوهرها كانت حوارًا مع الواقع، بينما الصحافة التنبؤية الجديدة حوار مع الاحتمال. تخيّل نظامًا صحفيًا يكتب تقريرًا عن “موجة حر متوقعة الأسبوع القادم” بناءً على بيانات سابقة، ثم ينتشر الخبر كما لو أن الموجة وقعت فعلًا. هكذا يتحول المستقبل إلى مادة إعلامية قبل حدوثه، ويصبح “التوقع” نوعًا من “النقل”.
في هذا السياق، يصبح القارئ جزءًا من العملية الاحتمالية نفسها. فكل تفاعل، وكل قراءة، وكل مشاركة، تُغذي الخوارزمية بمزيد من الأنماط، لتكتب أخبارًا أكثر “قابلية للتصديق”. إنها دائرة مغلقة من الإقناع الذاتي الجماعي.
المصدر الذي اخترع نفسه
أحد أخطر مظاهر هذه المرحلة هو ولادة “المصدر الافتراضي”. فالنظام الذكي، حين لا يجد معلومة كافية، يخلق كيانًا يبدو حقيقيًا: اسم باحث، مؤسسة وهمية، دراسة غير موجودة. كل ذلك في سبيل ملء الفراغ النصي بما يحافظ على انسجام الأسلوب. وحين يقرأ القارئ النص، يظن أنه أمام تحقيق صحفي متكامل.
تقول الباحثة في أخلاقيات التقنية “كارول هاينريش”: “الذكاء الاصطناعي لا يكذب، لكنه لا يعرف أنه يكذب.” فالمصدر بالنسبة له ليس شاهدًا، بل عنصرًا لغويًا مطلوبًا لبنية الجملة. وإذا كان القارئ يبحث عن اسمٍ يضفي مصداقية، فالنظام سيولّد الاسم المناسب بلا تردد.
ولأن هذه النماذج تُدرّب على ملايين المقالات الإخبارية، فهي تتعلم شكل الاقتباس وطريقة كتابة العناوين والمراجع. لكنها لا تمتلك وعيًا زمنيًا ولا سياقًا واقعيًا. وبذلك، تظهر أمامنا “صحافة بلا ذاكرة”، تنتج نصوصًا دقيقة نحويًا، فارغة وجوديًا.
أزمة الثقة والهوية الصحفية
حين يفقد القارئ ثقته في المصدر، يفقد الصحفي نفسه هويته. فجوهر المهنة قائم على الوساطة بين الحدث والجمهور، على فكرة أن هناك شخصًا خرج وسأل وشهد. أما حين تحل الخوارزمية محلّ هذا “الشاهد”، تنكسر دائرة الثقة التي بُنيت عبر قرون.
في دراسة حديثة لجامعة أكسفورد، قال 58% من المشاركين إنهم لا يستطيعون التمييز بين مقال كتبه صحفي حقيقي وآخر كتبه نموذج ذكاء اصطناعي. نصف هؤلاء عبّروا عن “إعجابهم بالدقة والسلاسة”، بينما عبّر النصف الآخر عن “قلقهم من غياب الروح البشرية”.
إن ما يتآكل هنا ليس مجرد مهنة، بل معنى الحقيقة نفسه. فحين تصبح الواقعة مجرد بناء لغوي، يُعاد إنتاج العالم وفق منطق الخوارزمية، لا وفق وقائعه.

بين الكفاءة والوعي
قد يقول البعض إن هذه الأدوات تمنح الصحفيين وقتًا للتركيز على القضايا الكبرى بدل الأخبار اليومية، وهو قول يحمل بعض الصحة. فالنظام قادر على تلخيص المؤتمرات وتحليل البيانات وتقديم موجزات فورية. لكن الخطر يكمن في انتقال “العقل التحريري” من الإنسان إلى الخوارزمية. لأن القرار بشأن ما يُنشر وما يُهمّش لم يعد بيد المحرر، بل بيد نموذج تعلّم أنماط الاهتمام الجماهيري.
وبذلك، يُعاد تشكيل أولويات الصحافة وفق منطق “ما يجذب” لا “ما يهمّ”. فالخوارزمية تُفضل القصص المثيرة والعناوين القابلة للمشاركة لأنها تُحسّن معدل النقرات، حتى لو كانت أقل أهمية. إنها كفاءة بلا وعي، وسرعة بلا مسؤولية.
الصحافة بين التزييف والتحوّل
من منظورٍ أوسع، يمكن القول إن هذه التحولات ليست تزييفًا متعمّدًا بقدر ما هي نتيجة حتمية للتقنية. فكما غيّرت الكاميرا طبيعة السرد البصري، يُغيّر الذكاء الاصطناعي طبيعة السرد الصحفي. لكن السؤال يبقى: من سيحمل عبء التحقق؟ ومن سيضمن أن الحقائق لا تُستبدل باحتمالاتها؟
هناك اليوم مبادرات عالمية لتطوير أدوات تحقق قائمة على الذكاء الاصطناعي نفسه، قادرة على تحليل النصوص الاصطناعية وكشف تركيبها. غير أن هذه المعركة أشبه بصراعٍ بين مرآتين: آلة تكتب وآلة تفتش في كتابتها، دون وجود شاهدٍ بشري يرى الواقع أصلًا.
من الحقيقة إلى القابلية للتصديق
يبدو أننا نعيش زمنًا لا تُكافأ فيه الحقيقة بقدر ما تُكافأ فيه القابلية للتصديق. فالنص الذي “يبدو” حقيقيًا أكثر فاعلية من النص الذي هو حقيقي فعلًا. ولأن الخوارزميات تتعلم من تفاعل الجمهور، فإنها تُنتج ما يصدّقه الناس، لا ما يجب أن يُصدّقوه.
بهذا المعنى، يصبح الإعلام مرآة للرأي العام أكثر مما هو حارس عليه. فكلما تزايد ميل الجمهور إلى القصص الدرامية، أنتج النظام مزيدًا منها. وهكذا، يتحول المجال الإعلامي إلى صدى جماعي لرغباتنا، لا لحقيقتنا.
حين تختفي الحدود بين الكاتب والمصدر
في الصحافة التقليدية، الكاتب يستند إلى المصدر. في الصحافة الاصطناعية، الكاتب هو المصدر. يبتكر الوقائع كما يبتكر الجُمل، ويُنتج المعلومة كما يُنتج الأسلوب. هنا يفقد النص جذوره الواقعية، ويصبح مجرد محاكاة للواقع.
لكن الخطر الأعمق هو أن هذه النصوص الاصطناعية تبدأ في تغذية نفسها. فعندما تُنشر مقالات آلية على الإنترنت، تُصبح لاحقًا جزءًا من البيانات التي تُدرّب عليها النماذج الجديدة. وبذلك، تنشأ حلقة مغلقة من “الصحافة المولّدة ذاتيًا”، حيث تستقي الخوارزميات معلوماتها من نصوص كتبتها خوارزميات سابقة. ومع الوقت، قد نفقد القدرة على معرفة أين تبدأ الحقيقة وأين تنتهي المحاكاة.
من الصحافة إلى السرد
ربما ما يحدث اليوم ليس موت الصحافة، بل تحوّلها إلى سردٍ جديد. فالنماذج اللغوية قادرة على توليد قصصٍ مذهلة، لكنها لا تستطيع إدراك عواقبها. في المقابل، يظل الصحفي البشري الوحيد القادر على إدراك معنى الحدث وتأثيره الاجتماعي والأخلاقي.
يقول الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس: “العالم سيصبح مكتبةً هائلة ينسى قرّاؤها أن الكتب لا تتحدث عن شيء حقيقي.” وهذه المقولة تبدو اليوم أكثر قربًا من واقعنا، حيث النصوص تتكاثر بلا شاهد، والمصادر تُخترع كما تُخترع القصص.
نحو وعيٍ جديد بالكتابة الصحفية
إن مواجهة هذه المرحلة لا تعني رفض التقنية، بل إعادة تعريف العلاقة بينها وبين الحقيقة. يجب أن تعود الصحافة إلى جوهرها: سؤال الواقع لا إعادة صياغته. فالذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون شريكًا فاعلًا حين يُستخدم للتحقق لا للتأليف، وللتوضيح لا للابتكار الزائف.
إن على المؤسسات الإعلامية أن تُعلن بشفافية متى يُستخدم الذكاء الاصطناعي في إنتاج النصوص، وأن تُطوّر معايير جديدة لمصداقية المصدر الرقمي. فالمصداقية في العصر الاصطناعي لن تأتي من “اسم الصحفي” وحده، بل من “منهج التحقق” الذي اتبعه النموذج والإنسان معًا.
ما بعد الحقيقة
في نهاية المطاف، لا يبدو أن المستقبل سيعيدنا إلى الصحافة القديمة، بل سيدفعنا إلى نوعٍ من “التعايش” بين الإنسان والآلة. الصحفي الحقيقي سيصبح محررًا للآلة، لا منافسًا لها، دوره أن يُعيد توجيه البوصلة الأخلاقية في عالمٍ يغمره النص.
لكن يظل الخطر قائمًا: كلما زادت قدرة النظام على الإقناع، قلّت حاجتنا إلى التحقق. وعندما يصبح الإقناع بديلاً عن الصدق، نكون قد دخلنا زمن “ما بعد الحقيقة” الكامل، حيث لا أحد يكذب، لأن لا أحد يعرف الحقيقة بعد الآن.
في هذا العالم الجديد، لن تُقاس المصداقية بعدد المصادر، بل بقدرة النص على الصمود أمام سؤالٍ بسيط: من قال هذا؟ — سؤالٌ قد لا نجد له جوابًا بعد حين، لأن من “قاله” لم يكن إنسانًا على الإطلاق.
اقرأ أيضًا: كتابة بلا تفكير.. أثر المحتوى السريع على الوعي اللغوي








