الإعلام.. و”حُثالة الذكاء الاصطناعي”

الإعلام.. و”حُثالة الذكاء الاصطناعي”

د. ياسر عبدالعزيز

لقد ظهر أخيرًا أول رد فعل ثقافي متماسك ضد الإفراط في استخدام منتجات الذكاء الاصطناعي الرديئة والمُتهافتة ضمن المحتوى الإعلامي، حينما أطلق باحثون متخصصون مصطلح “حُثالة الذكاء الاصطناعي” (AI Slop) على تلك المواد، التي تتسم بانخفاض الجودة، بينما تتدفق بكثافة عبر المنصات.

ففي شهر يوليو الماضي، نشرت صحيفة “الغارديان” البريطانية تحليلاً أفادت فيه بأن تسعًا من أكثر مائة قناة نموًا على وسائل “التواصل الاجتماعي” تستخدم المحتوى المُولد بواسطة الذكاء الاصطناعي، وأن قطاعًا كبيرًا من هذا المحتوى يتسم بالرداءة، وأغلبه يتعلق بكرة القدم للزومبي، أو مسلسلات القطط. وكما يشير آدم نيمروف، أستاذ الإبداع والتكنولوجيا، بجامعة كوينيبياك الأميركية، فإن معظم هذا المحتوى يتسم بتراجع الجودة، وبالطبع عدم الدقة، وبعض أنماط هذا المحتوى يتم اختلاقها من أجل الاستهلاك السريع مُنخفض العائد.

وفي الشهور القليلة الماضية، تزايد عدد التقارير والبحوث التي تحذر بوضوح من ارتفاع نسبة المواد الرديئة المُخلَّقة بواسطة أدوات الذكاء الاصطناعي، ضمن المحتوى الإعلامي، المُتاح على وسائل “التواصل الاجتماعي” وبعض منصات الإعلام “التقليدي”، وهي مواد تتنوع بين الصور، والفيديوهات، والنصوص، ومنتجات الغرافيك.

فبينما حملت أدوات الذكاء الاصطناعي وعودًا سخية بتحرير الطاقات البشرية، وتسريع الإنتاج، وتوسيع نطاقات الإبداع في المجال الإعلامي، ظهرت على الجانب الآخر مشكلات تتعلق بسطحية المواد المُنتجة بواسطة هذه الأدوات، وتكرار الأفكار، وإغراق الفضاء الرقمي بمحتوى يفتقر إلى الروح الإنسانية، واللمسة الإبداعية، والنزعة الابتكارية، والبصمة الفردية.

ولمزيد من التبسيط، فإن مصطلح “AI Slop” أو “حُثالة الذكاء الاصطناعي” في المجال الإعلامي يماثل تقريبًا مصطلح الطعام الغث (Junk Food) في مجال الغذاء، وهو طعام يُعرف بمحتواه غير الصحي، لاحتوائه على نسبة كبيرة من السكريات والدهون والملح، مما يؤدي إلى زيادة الوزن والإصابة بالأمراض المُزمنة.

وفي مقابل الطعام الغث تبرز الوجبات الصحية، التي تُعد في المنازل غالبًا، أو في المطاعم الراقية والمُتخصصة، وهي وجبات تُبذل فيها جهود وموارد وعناية أكبر، وتقابل الاشتراطات الصحية بدرجة من الجدية والالتزام، وبالطبع، فإن مردودها الغذائي والصحي والنفسي يكون أعلى وأكثر توافقًا مع الاحتياجات الإنسانية.

ومن الناحية العلمية، ظهر مصطلح “AI Slop” في الأدبيات التقنية والإعلامية باعتباره توصيفًا نقديًا لنتاج النماذج التوليدية حين تُستخدم بكثافة من دون معايير جودة أو إشراف بشري. فكلمة “Slop” في الإنجليزية تعني الحثالة، أو الفضلات التي تُلقى بلا عناية، ومن هنا جاءت استعارتها للإشارة إلى النصوص والصور والمواد التي تنتجها الخوارزميات بصورة آلية متكررة، مُفرطة في السطحية، ومُفتقرة إلى الأصالة. وقد ربط بعض الباحثين الظاهرة بمفاهيم أوسع مثل “التلوث المعرفي”، و”الانحدار الثقافي الرقمي”، عادّين المصطلح أحد الوجوه الجديدة لظاهرة استخدام الذكاء الاصطناعي في المنتجات الإعلامية من دون الحيطة الواجبة.

إنّ الإعلام بطبيعته قائم على الثقة والمصداقية والقدرة على الإقناع، من خلال سرد عميق وتحليل دقيق، وحين يتكاثر المحتوى الآلي بلا ضابط تتعرض هذه الأسس للاهتزاز. فالقارئ أو المُتلقي يجد نفسه أمام عناوين جذابة ومتون متشابهة، قد تكون صحيحة في بعض تفاصيلها، لكنها تفتقر إلى العمق التحليلي وإلى السياق الذي يمنحها قيمة حقيقية. والأسوأ من ذلك أنّ سرعة الإنتاج وسهولة التكرار تولّدان ما يشبه الضوضاء المعرفية، حيث يختلط الغث بالسمين، ويصبح من العسير على المتابع أن يميّز ما هو موثوق وذو جدوى مما هو مجرد إعادة تدوير رقمية لمحتوى سابق.

وليست تلك هي كل الأخطار المتولدة عن الإفراط في استخدام أنماط المحتوى الرديئة، لكن الأمر يتعدى ذلك إلى تهديد المكانة المهنية للصحافيين وصُناع المحتوى والباحثين المُبدعين، الذين يجدون أنفسهم في أتون منافسة غير عادلة مع خوارزميات قادرة على إنتاج آلاف المواد والنصوص في لحظات معدودة، وبمجرد الطلب.

فإذا تم الاستسلام إلى السوية الإنتاجية المُفرطة والسخية لتلك الأدوات، فإن هؤلاء الصحافيين والمُبدعين الذين يمتلكون الحس الإنساني، ومُمكنات التحليل العميق، والخبرات الميدانية، ستتراجع حظوظهم في المنافسة، بسبب الضغوط الاقتصادية، وسرعة الاستهلاك الإعلامي، وتردي ذائقة التلقي.

غير أنّ تصوير الـ”AI Slop” بوصفه قدرًا محتومًا أمر ينطوي على قدر من التبسيط؛ فالذكاء الاصطناعي في جوهره مجرد نظام تقني، ومصيره مرهون بكيفية استخدامه. فإذا تُرك ليُستعمل بلا ضوابط ومعايير، فسيغدو بالفعل مصدرًا للتلوث المعرفي، أما إذا أُخضع لإشراف مهني وأخلاقي مناسب، فإنه قد يتحول إلى وسيلة تعزز العمل الإعلامي بدلاً من أن تشوهه، وهنا يبرز دور المؤسسات الإعلامية والمحررين، في وضع معايير صارمة لاستخدام المواد المُولّدة، والتأكد من خضوعها لمراجعة بشرية تضيف إليها البعد النقدي والتحليلي، وتفرق بين الغث والسمين.

  • Related Posts

    تطبيقات الذكاء الاصطناعي.. وتساؤلات البشر

    تطبيقات الذكاء الاصطناعي.. وتساؤلات البشر مصطفى سليمان كانت مهمة حياتي تتلخص في إنشاء ذكاء اصطناعي آمن ومفيد من شأنه أن يجعل العالم مكانًا أفضل. ولكن في الآونة الأخيرة، ساورني القلق…

    كيف يغيّر الذكاء الاصطناعي «العمليات الأمنية»؟

    زكي تريدي يُشكّل المهاجمون السيبرانيون باستمرار تهديدات جديدة ومعقدة تتجاوز قدرات الحلول الأمنية التقليدية، وهي حقيقة لا يمكن لصنّاع القرار في قطاع تكنولوجيا المعلومات تجاهلها. وتتطلب الهجمات الحديثة حلولاً متقدمة،…

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    مقالات

    الإعلام.. و”حُثالة الذكاء الاصطناعي”

    • سبتمبر 29, 2025
    • 92 views
    الإعلام.. و”حُثالة الذكاء الاصطناعي”

    تطبيقات الذكاء الاصطناعي.. وتساؤلات البشر

    • سبتمبر 26, 2025
    • 46 views
    تطبيقات الذكاء الاصطناعي.. وتساؤلات البشر

    كيف يغيّر الذكاء الاصطناعي «العمليات الأمنية»؟

    • سبتمبر 24, 2025
    • 50 views
    كيف يغيّر الذكاء الاصطناعي «العمليات الأمنية»؟

    الذكاء الاصطناعي في قاعة التشريفات: ضيف لا مضيف

    • سبتمبر 18, 2025
    • 23 views
    الذكاء الاصطناعي في قاعة التشريفات: ضيف لا مضيف

    الإعلام والذكاء الاصطناعي.. ستة مصادر للقلق

    • سبتمبر 15, 2025
    • 30 views
    الإعلام والذكاء الاصطناعي.. ستة مصادر للقلق

    الذكاء الاصطناعي قد يفتن عليك

    • سبتمبر 5, 2025
    • 22 views
    الذكاء الاصطناعي قد يفتن عليك