
حول نظرية القانون المشتغل بالكود “الرمز” Code-driven law
د. علي الصديقي
تمر العلوم التجريبية بتحولات سريعة هذه الأيام، لا نقف على تطوّر حتى يداهمنا تطوّر آخر أسرع منه. فقبل سنوات قليلة فقط، كنّا نناقش التوقيع الإلكتروني وحجية المحررات الإلكترونية. مثل هذا الحديث أصبح اليوم جزءًا من التاريخ، حيث صار حقيقة موجودة ومستقرة تتعامل القوانين المعاصرة معها. فقد أسس التقدم المعلوماتي تيارًا فكريًا يقوم على النزعة التقنية ليرى أن في التقنية حلًا للمشاكل التي تعانيها البشرية، وفي هذا الصدد يطرح أستاذ القانون في جامعة هارفرد لورانس ليسيج مقولته “الكود هو القانون” على اعتبار أن المبرمج يمارس دورًا في تنظيم المجتمع. وهكذا دخلت التقنية في صميم علم القانون.
مؤخرًا، فقد غيّرت تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي طريقة إدارتنا للمعرفة عمومًا، والمعرفة القانونية خصوصًا. وأصبحت الحاجة ملحة إلى إعادة قراءة المشهد القانوني الجديد، حيث يمارس الذكاء الاصطناعي معارفه بطريقة غير متوقعة وغير مرسومة ابتداءً. إذ يقوم “الذكاء الاصطناعي التوليدي” بمعالجة وتحليل وإعادة تصنيف المعلومات واتخاذ القرارات دون حاجة إلى المساعدة الإنسانية. فوُلدت فكرة الروبوت، ليقوم بما يقوم به الإنسان، فدخل شتى مناحي الحياة الاقتصادية وقطاعاتها، ووصل إلى الممارسة القانونية ومنصات القضاء: نُدخل النصوص بوصفها قاعدة معلومات “تعليمات أساسية”، ثم يقوم الروبوت بمعالجتها وربطها بالوقائع العملية، ليقوم باتخاذ القرار القانوني المناسب بشأن تلك الوقائع.
وفي محاولة لإيجاد تأسيس علمي لهذه الفكرة، تشكلت نظرية قانونية أطلق عليها “القانون المشتغل بالكود” Code-driven law، تنسف هذه النظرية فهمنا التقليدي لدور القانون والقضاء والإدارة المنفذة للقانون، بحيث تفترض ما يأتي: 1- دمج التشريع والتطبيق والتفسير معًا، أي القيام بالمهمة القانونية “دفعة واحدة”، 2- وبالتالي تقليص المسافة بين السلطات الثلاث، 3- والتمازج بين “حكم القانون” و”أثره في الواقع”، 4- واعتبار “التفسير القانوني” عملية بنيوية وليست وصفية للنص، 5- مما يولّد نظامًا “قانوني-قضائي” مغلقًا من حيث التكوين. وهكذا 6- تُطابق النظرية بين “قوة النص” و”قوة الكود”، وهو ما يحقق الأمن القانوني ووحدة التطبيق، بفهمٍ ينسجم بشكل كبير مع المدرسة الشكلية لمفهوم القانون ويقترب من نمط المدرسة اللاتينية لا الأنجلوسكسونية، ويؤدي 7- إلى القضاء على مشكلة “غموض القانون”، بحيث يمكن للأفراد التنبؤ بالقانون وأحكامه بشكل سريع.
على جانب آخر، تواجه هذه الفكرة تحديات كبيرة من بينها: 1- أن القاضي أو الممارس القانوني يمكنه إعادة تكييف أو تغيير تفسير نمط القانون القائم على النص، ولكن لا يمكن ذلك في نمط القانون المشتغل بالكود، و2- كما أن القانون وتطبيقه ليس عملية حسابية بالضرورة، بل يحكمها السياق والوعي والفطنة والنباهة. ثم 3- أن القانون المشتغل بالكود يختزل معياريته في الزمن الماضي بحيث يلتزم بقواعد نصية مسبقة وسوابق قضائية، ولا ينظر إلى المستقبل في صياغة الحكم، أما القاضي أو الممارس البشري فيمكنه النظر إلى المستقبل بشكل أكثر وعيًا، بل يرسم حدود ما يرغب القيام به من معالجات.
برغم هذه الملاحظات، لا يمكن إنكار تيار النزعة التقنية الذي يواجه النظريات القانونية السائدة، ولهذا يجب البحث في كيفية المواءمة بين عدالة الأسس القانونية التقليدية الراسخة، وبين مستجدات التكنولوجيا ودورها في تطور تلك الأسس وتعزيزها بدلًا من هدمها. فكما يشير ميشيل جينيسيريث الباحث في مركز المعلومات القانونية في جامعة ستانفورد: إذا كان حمورابي قد قام بتشفير قوانين الأرض عندما نقشها على حجر المسلّة حوالي 1750 قبل الميلاد ليتمكن المواطنون من معرفة ما هو متوقع منهم. فإن “تشفير القانون اليوم في صيغة كود حاسوبي” هو أيضًا خطوة في تطوير النظام القانوني ليعرف الأفراد ما هو متوقع منهم وجزاءات مخالفة القانون.