AI بالعربي – متابعات
في عالم يتّسع بسرعة الضوء لتقنيات الذكاء الاصطناعي والنماذج التنبؤية، لم يعد السؤال عمّا “يمكن” للآلة أن تعرفه عنّا، بل عمّا “تبقّى” لنا من مساحة لا تعرفها. يبدو أن اللاشعور — ذلك الجزء الغامض الذي وصفه فرويد بأنه “المحرّك الخفي للسلوك” — لم يعد بمنأى عن خوارزميات الذكاء الاصطناعي التي تترصّد كل نظرة، وكل توقف عابر على الشاشة، وكل تردّد غير منطوق قبل اتخاذ القرار.
لقد تحوّل فضول الإنسان القديم لمعرفة ذاته إلى مرآة جديدة تصنعها الآلة، مرآة أكثر دقّة من أي وقت مضى، لكنها أيضًا أكثر اختراقًا للخصوصية. وهنا يبرز السؤال الأعمق: من الذي يقرّر فعلًا؟ الإنسان أم النمط الرياضي الذي تعلّم كيف يتنبّأ بانفعاله العفوي قبل أن يعيه هو نفسه؟
الذكاء الاصطناعي واللاوعي الجماعي: كيف تتنبأ الآلة بما نفكر به؟
يرى علماء البيانات اليوم أن النماذج التنبؤية أصبحت أقرب إلى “حدس رقمي” هائل، يستمد قوته من ملايين القرارات اليومية التي نتركها خلفنا كأثر رقمي. من التمرير السريع على تطبيق ما، إلى تفاعل بسيط مع إعلان، أو حتى طريقة الضغط على لوحة المفاتيح. كلّها إشارات صغيرة تشكّل خريطة دقيقة لما يُسمّيه بعض الباحثين “اللاوعي الرقمي”.
في الماضي، كان علماء النفس يحاولون الوصول إلى أعماق اللاشعور عبر التحليل الرمزي للأحلام أو الذاكرة. أما اليوم، فالخوارزميات تفعل الشيء ذاته ولكن بلغة الأرقام والاحتمالات. وكأنها تُمارس علم نفس جديدًا، دون أن تسأل، ودون أن نعلم أننا نحكي لها كل شيء.
تقول الباحثة “كيت كروفورد” في كتابها ذكاء مصنّع: “كلّ ما يبدو عفويًا في العالم الرقمي، هو في الحقيقة نتاج هندسة عاطفية خفية”. فحين يقترح عليك تطبيق بث فيديو قصيرًا بعينه، أو يرشّح منصة أغنية حزينة في لحظة ضعف، فهو لا يقرأ مشاعرك فحسب، بل يتنبأ بها قبل أن تشعر بها بوضوح.

خوارزميات القرار: عندما تتحول النية إلى بيانات
يقول عالم الأعصاب “أنطونيو داماسيو” إن “العاطفة تسبق القرار، والمنطق يأتي لتبريره”. وفي عصر النماذج التنبؤية، يبدو أن الآلة فهمت هذه المعادلة جيدًا. فهي لا تحاول فقط تحليل ما نقرره، بل ما نميل إليه، وما نخافه، وما نحاول مقاومته.
تعتمد منصات الذكاء الاصطناعي الحديثة على خوارزميات قادرة على رصد “أنماط التردّد”، أي تلك اللحظة المجهولة بين النية والفعل. في التجارة الإلكترونية مثلًا، تعرف الأنظمة اللحظة التي توشك فيها على الشراء قبل أن تضغط زر “أضف إلى السلة”، لأنها لاحظت تكرار سلوك مشابه في مئات المستخدمين الآخرين بظروف متقاربة.
من جهة أخرى، تطوّرت الخوارزميات لتصبح قادرة على محاكاة اللاشعور الجمعي في المجتمعات، أي المزاج العام في زمن معيّن. فخلال الأحداث الكبرى أو الأزمات، يمكن للنموذج التنبّئي أن يتوقّع “المزاج العام” للمستخدمين، ويعيد تشكيل تدفّق المحتوى بما يتماشى مع هذا الشعور الجمعي. إنها إدارة دقيقة للمشاعر، كما لو كانت الآلة تمسك بزمام “اللاشعور الاجتماعي” بأكمله.

الذكاء الاصطناعي والعفوية الموجّهة: هل ما زال القرار عفويًا؟
في زمن لم يعد فيه “الاختيار” بريئًا من التأثيرات الخفية، باتت العفوية نفسها مشكوكًا فيها. فحين يختار المستخدم مشاهدة مقطع أو شراء منتج أو متابعة حساب، هل هو من اختار فعلًا، أم أن نموذجًا تعلّميًا قاد اللاشعور نحو هذا الاتجاه؟
يصف عالم الاجتماع الفرنسي جيل ليبوفيتسكي هذا التحوّل بأنه “انتقال من الاستهلاك الواعي إلى الاستجابة المبرمجة”. لم يعد القرار فعلًا نابعًا من الذات، بل نتيجة تراكمات لاشعورية صنعتها توصيات وبيانات وتجارب سابقة.
ومن المثير أن الشركات التقنية الكبرى أصبحت تعي ذلك تمامًا. فهدفها لم يعد إقناعك، بل توجيهك في لحظة اللاوعي، عندما تكون أكثر قابلية للاستجابة. هنا تتبدّد الحدود بين التنبؤ والسيطرة، بين الإقناع والتوجيه، بين الاختيار والبرمجة.
وفي هذا السياق، يرى باحثو “ستانفورد” أن الإنسان الرقمي الجديد لم يعد يملك حرية القرار بالمعنى الكلاسيكي، بل حرية “الاستجابة ضمن خيارات محددة مسبقًا”. ومع مرور الوقت، تتحول هذه الاستجابات إلى هوية رقمية تنمو داخل كل منا دون وعي، حتى يصبح الفرد انعكاسًا لبياناته أكثر من كونه ذاتًا حرة.

حدود السيطرة: من اللاشعور الفردي إلى اللاشعور الرقمي
في الماضي، كان اللاشعور مجالًا ذاتيًا غامضًا، لا يمكن لأحد الوصول إليه إلا عبر التحليل النفسي. أما اليوم، فقد أصبح اللاشعور مساحة تشاركية تُبنى من البيانات التي نُنتجها طوعًا أو دون قصد. كل “إعجاب” أو “توقف” أو “تمرير” يضيف لبنة جديدة في بناء شخصيتنا الرقمية التي تعرفها الآلة أكثر منا.
لقد تحوّل اللاشعور إلى حقل تجارب جماعي. فالذكاء الاصطناعي لا يكتفي بتحليل الفرد، بل يجمع ملايين اللاوعيات الصغيرة ليخلق وعيًا جمعيًا جديدًا، أشبه بما تحدّث عنه عالم النفس “كارل يونغ” ولكن بنسخة رقمية. إنه “اللاوعي الجمعي 2.0”، حيث تتفاعل الرغبات والقرارات والمشاعر عبر خوارزميات تتعلّم باستمرار من الجميع.
ومع هذا التطوّر، تُطرح أسئلة أخلاقية عميقة: إذا كان النظام قادرًا على التنبؤ بقرارك قبل أن تتخذه، فهل ما زال القرار ملكك؟ وهل يمكن للحرية أن تعيش في عالم تحكمه الاحتمالات؟
حين ينظر الإنسان إلى مرآة الآلة
يبدو أن اللاشعور البشري دخل مرحلة جديدة من التاريخ — مرحلة رقمية لا يسكنها الصمت بل الضوضاء، ولا تُعبّر عن أحلامنا بقدر ما تُترجمها إلى أنماط قابلة للحساب.
ربما آن الأوان لنسأل أنفسنا: هل نحن من نُشكّل النماذج التنبؤية، أم أنها بدأت تُعيد تشكيل وعينا بطريقتها الخاصة؟ فحين تنظر الآلة إلى الإنسان، فهي لا تراه كما يرى نفسه، بل كاحتمال، كمعادلة، كوجه بين ملايين الوجوه المتكرّرة.
لكن رغم كل شيء، يظل هناك هامش صغير من الفوضى، من العفوية غير المتوقعة، تلك اللحظة التي لا تستطيع أي خوارزمية أن تتنبأ بها. وربما في هذا الهامش تحديدًا يكمن جوهر الإنسان: في قدرته على المفاجأة، على الكسر المفاجئ للنسق، على قول “لا” عندما يتوقّع الجميع أن يقول “نعم”.
وفي نهاية المطاف، سيبقى اللاشعور البشري — رغم رقمنته — آخر معقل للغموض في عالم يتّجه بخطى واثقة نحو الشفافية الكاملة.
اقرأ أيضًا: الذكاء الاصطناعي يُعيد تشكيل صناعة الألعاب عالميًا








