AI بالعربي – متابعات
في زمنٍ باتت فيه الكتابة فعلًا مشتركًا بين الإنسان والآلة، تتغيّر أدوار المبدعين والبرمجيات على حدٍّ سواء.
النص الذي كان يُولد من وجدان الكاتب صار يمرّ عبر أنظمةٍ ذكية تقيس إيقاع اللغة، وتقدّر انسجام الفكرة، وتحسب احتمالية التأثير.
وما بين قلمٍ يخطّ بخيالٍ بشري، ونموذجٍ يُدقّق بعينٍ رقمية، يظهر سؤال يزداد عمقًا كل يوم: من ينقّح من؟
هل أصبحت الخوارزمية هي الناقد الأدق؟
أم أن الكاتب ما زال يحتفظ بسرٍّ لا تصل إليه الشبكات العصبية مهما تعلمت من النصوص؟
الكلمة في قبضة الخوارزمية
اللغة، التي كانت مرآة الروح، أصبحت اليوم أيضًا قاعدة بيانات.
في الماضي، كان المحرر الأدبي يراجع النص بعينه البشرية التي تعرف الانفعال والإيقاع والسياق.
أما الآن، فإن “المحرر الآلي” يقرأ النص بعيونٍ لا تُخطئ، لكنه لا يشعر.
يقيس الجمل بميزانٍ رقمي، ويقترح تحسينات على “النبرة” و“الانسيابية” و“وضوح الرسالة”.
لقد انتقلت الكتابة من “فن التعبير” إلى عملية هندسية قابلة للقياس.
النموذج اللغوي يملك ذاكرةً تتسع لمليارات الجمل،
ويستطيع خلال ثوانٍ أن يعرف أي تركيب لغوي سيجذب القارئ أكثر،
وأي كلمة تُثير الانتباه في مقدمة المقال،
وأي صيغة تُضاعف احتمالية التفاعل على المنصات الاجتماعية.
يقول الدكتور “أندرو نغ”، أحد رواد الذكاء الاصطناعي:
“كل أداة تصحيح ذكية هي في الواقع أداة تعليمية،
لكنها أيضًا أداة إعادة تشكيلٍ للذائقة دون أن نشعر.”
إنّ ما تفعله الخوارزميات اليوم لا يقتصر على التنقيح اللغوي،
بل يمتد إلى تشكيل الطريقة التي نفكّر ونكتب بها.
فحين تقترح عليك الأداة “صيغة أفضل”، فهي في الوقت نفسه تُخبرك ضمناً كيف ينبغي أن تُفكّر.

الإبداع في مواجهة الانضباط
الكتابة بطبيعتها فعل فوضوي.
هي مساحة للانحراف عن القواعد، للتجريب، وللدهشة التي لا يمكن حسابها.
لكن الذكاء الاصطناعي، في سعيه إلى الكمال اللغوي، يفرض نوعًا من الانضباط الصارم.
الخوارزمية لا تُحب الغموض ولا الصمت بين الكلمات؛
تعتبر التكرار ضعفًا، والاستعارة المفرطة خطأً، والسكوت البلاغي نقصًا في الدقّة.
وهكذا، يُصبح النص المنقّح آليًا أكثر سلاسة من اللازم، وأكثر وضوحًا مما ينبغي، وأقل صدقًا في الوقت نفسه.
يقول الأديب الكولومبي “غابرييل غارسيا ماركيز”:
“الكتابة الجيدة ليست ما يُقال بوضوح، بل ما يُحسّ دون أن يُقال.”
لكن كيف لخوارزمية لا تعرف الإحساس أن تدرك المسكوت عنه؟
النماذج اللغوية تحب النظام، والكتابة العظيمة تعيش في الفوضى.
ذلك التوتر بين الجملة الصحيحة والجملة الجميلة هو ما يصنع روح الأدب —
وهو ما تحاول الخوارزمية تهذيبه، وربما “إصلاحه” حتى الموت.
من الناقد إلى الشريك الخفي
لم تعد أدوات التحرير الذكي مجرد برامج للمراجعة،
بل أصبحت شركاء صامتين في عملية الإبداع.
فهي لا تكتفي بتصحيح الجمل، بل تُقترح أفكارًا بديلة وتولّد مقدمات وخواتيم،
بل وتُكمل الجمل التي يتوقف عندها الكاتب مترددًا.
يحدث هذا اليوم في غرف التحرير الرقمية في كبرى الصحف ودور النشر.
بعض الكتّاب يستخدمون أدوات الذكاء الاصطناعي لمراجعة كل فقرة قبل إرسالها للمحرر البشري،
وبعضهم يعتمد عليها لتجميع الأفكار وصياغة الحجج وترتيب الحجج المنطقية.
تقول الباحثة الأميركية “إيمي ويب”:
“عندما تتولى الخوارزمية مهمة التحرير، فإنها لا تصحح النص فقط، بل تُعيد تشكيل المنظور نفسه.”
هذا يعني أن الذكاء الاصطناعي لا يغيّر اللغة فحسب،
بل يغيّر الطريقة التي نُفكّر بها حول الكتابة.
فكل تعديل مقترح هو تعليم ضمني لأسلوبٍ معياريٍّ واحد:
أسلوب الخوارزمية التي تظن أنها تعرف ما يريده القارئ، حتى قبل أن يعرفه الكاتب نفسه.

الكاتب الذي يلاحق خياله داخل الآلة
الكتابة عبر الذكاء الاصطناعي تولّد علاقةً عجيبة بين الإنسان والنظام.
فكلما أصبح النموذج أكثر ذكاءً، ازداد الكاتب اعتمادًا عليه.
ومع الوقت، يبدأ الكاتب في تبنّي لغة النموذج نفسها دون وعي.
الكاتب الذي كان يختار كلماته بحدسه،
أصبح يكتب الآن وهو يسمع في ذهنه صوت الخوارزمية وهي تهمس:
“هذه الجملة طويلة جدًا… تلك الكلمة قديمة… استبدل هذا الفعل بآخر أقوى.”
إنها عملية تنميطٍ ناعمة للذائقة.
لا تفرضها الرقابة، بل الأداة ذاتها.
وما يبدو في البداية مساعدة على الإتقان،
قد يتحول مع الوقت إلى قيدٍ لغويٍّ جديد، يُخضع الإبداع لمعادلاتٍ مسبقة.
يقول الروائي الفرنسي “ألبير كامو”:
“التمرد هو ما يجعل الإنسان حيًا وسط القوانين.”
فكيف سيتمرّد الكاتب حين تكون القوانين مكتوبة بلغة البرمجيات؟
من النص الفردي إلى النص الجماعي
كل نموذج لغوي هو في جوهره حصيلة ملايين الأصوات البشرية.
إنه ذاكرة جماعية تُعيد خلط الجمل والمفاهيم والأنماط الأسلوبية في بوتقة واحدة.
وحين يكتب الكاتب بمساعدة الذكاء الاصطناعي،
فإن نصه، من حيث لا يدري، يصبح مزيجًا من أساليب مجهولة:
شاعر إنجليزي، ومقال صحفي عربي، وبيانٍ تسويقي أميركي، وعبارة فلسفية من القرن الماضي.
هذا الامتزاج ينتج نصًا جديدًا، لكنه يطرح سؤال الأصالة من جديد:
هل ما نكتبه اليوم هو حقًا “كتابتنا”؟
أم أنه نص جماعي مجهول النسب، يوقّعه الكاتب باسمه فقط لأنه ضغط على زر الإرسال؟
في العالم العربي، بدأت بعض دور النشر تطرح تساؤلات حول حدود الملكية الفكرية للنصوص التي يُنتجها الذكاء الاصطناعي.
فهل يمكن اعتبار الكاتب “المؤلف” إن كانت نصف جمله من اقتراح الخوارزمية؟
وهل يجوز قانونًا حماية عمل لم يكتبه بشر بالكامل؟

الذائقة تحت السيطرة الرقمية
الذكاء الاصطناعي لا يكتفي بتصحيح النصوص، بل يُوجّهها نحو ما يراه “فعالًا”.
إنه يفضّل العناوين القصيرة، والجمل المتوسطة الطول، والإيقاع المتوازن، واللغة التي تثير العاطفة دون مبالغة.
ومع الوقت، تتوحد الأساليب.
يمكن للقارئ اليوم أن يميّز بسهولة بين نص بشري كتبه تحت ضغط الإلهام،
ونص صاغته الخوارزمية بانسيابية متقنة،
كأنما صُمم ليُقرأ بسرعة ويُنسى بسرعة.
تقول الدكتورة “ليلى الزامل”، المتخصصة في ثقافة الاتصال الرقمي:
“كلما زادت مثالية النص، قلّت إنسانيته.”
ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن هذه الأدوات منحت فرصًا لآلاف الكتّاب الشباب
الذين كانوا يخشون النحو أو القواعد أو بطء التحرير.
الذكاء الاصطناعي فتح الباب أمام “ديمقراطية الكتابة”،
لكنها ديمقراطية مُعلّبة، تُدار من خلال واجهات الاستخدام.
نحو علاقة جديدة بين الإنسان والنص
ربما لا يمكننا بعد اليوم الحديث عن الكتابة كفعلٍ فردي خالص.
إنها أصبحت تفاعلاً مستمرًا بين الإنسان والنموذج، بين الحسّ والعقل الحسابي.
وفي هذا التفاعل تنشأ لغة هجينة:
جزء منها نابض بالحياة، وجزء آخر مصقول حتى الشفافية.
المهم الآن ليس أن نقاوم التقنية، بل أن نحافظ على “الظل الإنساني” داخل النص.
أن نترك أثر الخطأ الصغير، والتكرار المقصود، والجملة التي لا تُقاس بالمنطق.
ففي تلك العيوب الصغيرة يكمن الجمال الحقيقي،
وفيها يعيش ما لا يمكن أن تتعلمه الآلة: العفوية.
لقد أصبحت الخوارزمية مرآة جديدة للكاتب،
لكنها مرآة دقيقة أكثر من اللازم —
تعكس ملامحه دون روحه، وتضبط لغته دون نبرته.
أما دوره الجديد فهو أن يُعيد للكتابة ما لا يُقاس: العاطفة، الحدس، الإحساس بالدهشة الأولى.
ربما لا يهمّ في النهاية من يصحح من،
فالكاتب والنموذج أصبحا وجهين لوعيٍ واحدٍ يتجدد كل يوم.
هو يكتب، وهي تراجع؛ وهي تتعلّم منه، وهو يتبعها دون أن يدري.
لكن ما يهمّ حقًا أن تظل الكتابة، رغم كل ما تغير، فعلًا إنسانيًا بامتياز —
يُولد من القلب قبل أن يُعاد صياغته في المعالج.
فالخوارزمية قد تُنقّح الأسلوب، لكنها لن تعرف أبدًا كيف يُولد الإلهام.
والكاتب قد يستعين بها ليُصقل نصه، لكنه وحده من يعرف لماذا كتب.
اقرأ أيضًا: صناعة “الطبيعي” في عالم اصطناعي بالكامل








