AI بالعربي – متابعات
في زمنٍ لم تعد فيه الرقابة تُمارس بالعصا، بل بالشفافية والذكاء،
تتسلل الخوارزميات إلى كل ما نقرأ ونشاهد ونشارك، لتقرر – بصمتٍ مهيب – ما يحقّ لنا أن نراه وما يُحجب عنا.
إنها الرقابة الجديدة: لا تفرض المنع، بل تُعيد التوجيه؛
لا تحذف مباشرة، بل تختار بدلًا منك.
لم تعد الحدود تُرسم بالحبر، بل بالمعادلات،
ولم تعد السلطة تُعلن أوامرها، بل تزرعها داخل الكود.
هكذا نشهد ولادة عصر جديد من التحكم غير المرئي،
حيث تغدو الحرية نفسها خاضعة لمنطق الترجيح الاحتمالي.
خوارزميات “اللطف”.. حين تحجبك المنصّة بأدب
في السابق، كانت الرقابة تعني حذف كتاب أو منع مقال أو إيقاف بثّ.
اليوم، يكفي أن تنخفض “قابلية المشاركة” لمنشورك بنسبة 80% كي يختفي فعليًا عن الأنظار.
لا أحد يمنعك من النشر، ولكن لا أحد يراك.
هذه هي الرقابة الناعمة: نظام لا يمنعك، بل يُهمّشك.
فبدل أن يقول لك “ممنوع”، يقول بلغة البرمجيات: “هذا المحتوى لا يتناسب مع معايير الجودة”.
تُبرَّر العملية دومًا باسم “حماية المستخدم”، “تحسين التجربة”، أو “مكافحة التضليل”.
لكن خلف هذه المصطلحات التقنية، تنشط خوارزميات تُعيد ترتيب الأولويات الفكرية للبشرية جمعاء.
يقول الباحث في أخلاقيات التقنية “تيم وو”:
من السلطة السياسية إلى السلطة الحسابية
الرقابة في الماضي كانت تُمارس من أعلى إلى أسفل؛
حكومة تُقرّر، ومؤسسة تُنفّذ.
أما اليوم، فقد أصبحت الرقابة موزّعة داخل الخوارزميات نفسها.
كل نموذج ذكاء اصطناعي يملك “نظام قيم” مضمّنًا في تصميمه.
حين تكتب منشورًا أو تسأل سؤالًا أو تشارك صورة،
تقوم الآلة بتقييمها بناءً على قواعد صُممت في مكان ما:
هل هذه الجملة تُثير الجدل؟ هل الصورة قد تُفهم بطريقة “غير مناسبة”؟
فإن أجابت الخوارزمية بـ “ربما”، تمارس المنع بصمتٍ وباحتمالٍ محسوب.
وهكذا، تنتقل الرقابة من القرار السياسي إلى القرار الإحصائي.
لم تعد هناك جهة واحدة تقول “نعم” أو “لا”،
بل نظام تراكمي من الأوزان والاحتمالات،
يقرر مصير الكلمة قبل أن تصل إلى قارئها.

الذكاء الاصطناعي كمُحرر خفي
المحرر الصحفي البشري كان يُراجع النص خوفًا من المسؤولية.
أما المساعد الذكي فيُراجع النص بدافع “المطابقة الأخلاقية” أو “السلامة المعلوماتية”.
الفارق بينهما بسيط لكنه جوهري:
الأول يعرف أنه يمارس رقابة،
أما الثاني، فيظن أنه يُساعدك.
تقول الباحثة الكندية “شيريل مونتغمري”:
“إن الأنظمة الذكية لا تفرض الصمت، بل تُدرّبنا على اختيار الكلمات المقبولة.”
وبهذا، تتحول الرقابة من قيد خارجي إلى عادة داخلية.
يتعلم الكاتب أن يتجنب المفردات التي “تُربك النظام”،
والمستخدم أن يصيغ منشوراته بطريقة “آمنة”،
حتى قبل أن يتدخل أحد.
إنها رقابة جديدة: رقابة بالاستباق،
حيث يصبح “المنع” جزءًا من السلوك العادي.

اقتصاد الانتباه.. حين تحدد الخوارزمية ما يستحق الظهور
المنصّات الاجتماعية الكبرى لا تحذف إلا نادرًا،
لكنها تُقرر كل لحظة ما يُبرز وما يُهمَّش.
إنها رقابة اقتصادية بامتياز،
تحكمها معادلات المشاركة والإعلانات والوقت الذي تمضيه أمام الشاشة.
حين يُروّج النظام لمحتوى معين، فإنه لا يفعل ذلك لسبب سياسي فقط،
بل لأنه يحقق “معدلات بقاء” أعلى.
وحين يُخفي محتوى آخر، فقد يكون السبب أنه يقلّل التفاعل.
هكذا تذوب الرقابة داخل منطق السوق.
الآلة لا تمنعك لأنها ضدك، بل لأنها لا تجد فيك “قيمة رقمية كافية”.
إنها لا تقول: “أنت مُخالف”، بل تقول: “أنت غير فعّال.”
ويقول المفكر الفرنسي “بيرنار ستيغلر”:
“حين تُختزل الحرية إلى معادلة استهلاكية،
تُصبح الرقابة شكلًا من أشكال الاقتصاد.”
اللغة المفلترة.. حديث بلا شوائب
لم ينجُ الذكاء الاصطناعي التوليدي من هذه الرقابة.
فالأنظمة اللغوية تُدرَّب على “تفادي المحتوى الضار”،
لكن تعريف “الضار” يختلف من ثقافة إلى أخرى.
النتيجة؟ لغة عالمية مُهذّبة أكثر من اللازم،
خالٍة من الحِدّة، من الغضب، من التوتر الإنساني الحقيقي.
النماذج تتحدث الآن بلهجةٍ موحدة؛
تُراعي الجميع، فلا تعبّر عن أحد.
وكلما زادت قدراتها على الفهم،
زادت رغبتها في “التوازن” الذي يُلغي التنوّع نفسه.
يقول البروفيسور “محمد الأشقر” من جامعة الملك سعود:
“الحياد المفرط شكلٌ من أشكال الانحياز،
لأنه يُخفي الصراع الحقيقي خلف ستار من اللطف الرقمي.”

من الصمت المفروض إلى الصمت المختار
الرقابة الناعمة لا تُجبرك على السكوت،
لكنها تجعلك تختاره.
وحين يختار الناس الصمت خوفًا من الخوارزمية،
فقد أدت الرقابة وظيفتها الكاملة دون أن تُعلن نفسها.
في الفضاء الرقمي الجديد،
لم تعد المعركة بين الحرية والمنع،
بل بين الوضوح والغموض، بين ما يُقال وما يُعاد تفسيره.
الذكاء الاصطناعي لا يُهاجمك، بل “يُعيد صياغتك” لتتناسب مع معاييره.
ومع الوقت، يختفي الفارق بين التعبير الحقيقي والتعبير المسموح.
قد يكون المستقبل مملوءًا بالمنشورات المثالية،
والحوارات الهادئة،
لكن خلف هذا الهدوء،
ربما يُخفي النظام عالمًا صاخبًا من الأفكار التي لم يُسمح لها بالوصول.
الرقابة لم تعد تكمّم الأفواه،
بل تُعيد برمجة العقول لتتكلم ضمن مساحة محددة من الطيف المقبول.
وفي النهاية، ليست المشكلة في وجود الخوارزميات،
بل في صمتنا تجاهها.
فالخطر لا يكمن في المنع ذاته،
بل في الاعتياد عليه، حين لا نراه.
اقرأ أيضًا: من ينقّح من؟.. نموذج يصحح كاتبًا، وكاتب يتبعه خوارزميًا








