الروبوتات ومَصير الوظائف البشريّة في المُستقبل

167

مازن مجوّز

تَرَكَتْ الصدمة الصحيّة والاقتصاديّة الناتجة عن كوفيد-19 بصمتها على أهميّة صقْل المَهارات وضرورة السَّير بها، ومن المُتوقَّع أن يحتاج نصف العاملين حول العالَم إلى صقْلِ مَهاراتهم أو إعادة التأهيل في غضون السنوات الخَمس المُقبلة، مع ترسيخ هذا الاضطّراب المُزدوِج لتأثيرات هذه الصدمة التي خلَّفها الوباء والحاجة إلى المزيد من الأتْمَتَة.

وفي ظلّ التفاوُت الحاصل في المَداخيل الآخذ في الزيادة منذ سنوات، والمُتزامِن مع المَخاوِف حيال عمليّات إلغاء الوظائف نتيجة لمُزاحَمة التكنولوجيا، توصَّلت أحدث دراسة للمُنتدى الاقتصادي العالَمي بعنوان “مُستقبل الوظائف” إلى أنّ الروبوتات ستقضي على 85 مليون وظيفة في الشركات متوسّطة وكبيرة الحجم خلال السنوات الخمس المُقبلة، فيما تُسرِّع الجائحة من التغيّرات في مكان العمل، الأمر الذي سيؤدّي، على الأرجح، إلى تضاعُف هذه التفاوتات والمَخاوِف معاً.

والمقصود بـ “الروبوت” هنا هو آلة مُخصَّصة لكلّ الأغراض، وھي مزوَّدة بأطراف وجھاز للذاكرة وھي قادرة على الدَّوران والحلول محلّ العامل البشري بواسطة الأداء الأتوماتيكي للحركات، وهو التعريف الذي يقدّمه الاتّحاد الياباني للروبوتات الصناعيّة Association Robot Industrial Japan. وقد أطلق على الروبوت مسمّى “الإنسان الآلي”، وذلك لأنّ الروبوت عبارة عن آلة أو جھاز على ھیئة إنسان تتمّ بَرمَجته عن طریق شخصٍ طبیعي يُسمّى مُبَرْمِج. ویستطیع الإنسان الآلي أن یحلَ محلَ الإنسان الطبیعي للقیام بمهامٍّ عدّة.

يأتي هذا في وقت يعتقدُ الكثير من الخبراء، أنّه خلال نحو أربعين عاماً، سيتمكّن العُلماء من إنتاج إنسانٍ آليّ يشبه البشر إلى حدٍّ كبير. ومن هنا، فإنّ هذه الدراسة الصادرة في 21 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2020، رجَّحت مجدّداً كفّة ضرورة تدريب العامل من أجل اكتساب مهارات جديدة أو تحسينها.

في الواقع، ثمّة الكثير من الأدلّة عن تأثيرات كوفيد-19 (الآنفة الذكر) لعلّ أبرزها افتتاح الصين في 7 آذار (مارس) الفائت مُستشفى يعمل بالروبوتات في “ووشانج بووهان”، باعتماده على ستّة أنواع مُختلفة من الأطبّاء الروبوتات لقياس درجات الحرارة، وتقديم وجبات الطعام، والقيام بجولات عبر حجرات المُستشفى وأجنحته وتنظيف المناطق المُصابة، للمساعدة في علاج مَرضى فيروس كورونا وتخفيف الضغط على الطاقم الطبّي.

ووفقاً لمَوقع “مترو” البريطاني، تمّ تجهيز المستشفى أيضاً بشبكات الجيل الخامس 5G، لتمكين التحديثات المُباشرة والتواصُل السريع مع مُشغّلي الروبوتات، بهدف تخفيف عبء العمل عن 3000 من العاملين الطبّيّين في مُختلف أنحاء مُقاطَعة “هوبي” المُصابة بـالفيروس منذ بدء تفشّي المرض.

المَهارات الجديدة أهمّ شروط البقاء في الوظيفة

في الحقيقة، إنّ الحديث عن الروبوتات التي باتت شريكاً للإنسان في الكثير من مجالات الحياة، وفي العديد من بلدان العالَم ليس جديداً، إلّا أنّ مَوجة اجتياح التكنولوجيا والروبوتات للكثير من الوظائف أثارت جدلاً عارماً في اليابان في “معرض اليابان للتكنولوجيا”، والذي تضمّن مُحاكاةً للحياة على مدى سنة . ففي أحد أقسامه، كان بإمكان الزوّار السَّير في شارع تصطفُّ فيه التقنيّات – التي يأمل أصحابُها أن تُصبحَ أجهزة للاستخدام اليومي خلال السنوات العشر القادمة – وكان أبرزها الرجل الآلي “تيلي روبوت” المُكوّن من زوج من الأيدي الآليّة التي يُمكن التحكّم بها عن بُعد، عبرَ قفّازات يرتديها المُستخدِم.

بالنظر إلى شروط بقاء العُمّال في أعمالهم ووظائفهم في ظلّ لجوء أصحاب العمل إلى تقسيم أعمالهم بالتساوي بين البشر والآلات، فإنّه يتوجّب على نصف هؤلاء تعلُّم مهارات جديدة، وفق ما تؤكِّد سعديّة زهيدي، المديرة الإداريّة للمُنتدى الاقتصادي العالَمي، مُعتبرةً أنّ جائحة كوفيد-19 سرّعت الانتقال إلى مُستقبل العمل.

هذه الرؤية تأتي لتُلقي الضوء مجدَّداً على مُستقبل الوظائف، حيثُ تُحدِّد الدراسة وظائف ومَهارات المُستقبل؛ كما وتتبع التغييرات التي تطرأ على سوق العمل، مُستندةً إلى مسْحٍ تضمَّن ما يقرب من 300 شركةَ عالَميّة، يُبيِّن أنّ المُدراء التنفيذيّين في أربعٍ من كلّ خمس شركات يُسرّعون خطط رقْمنة العمل، ويطبّقون تقنيّات جديدة، ويُبدِّدون مَكاسِب التوظيف التي حصلت منذ الأزمة الماليّة في عامَي 2007-2008.

ووجدَ المسْحُ أنّ حوالى 43 في المئة من الشركات التي شملها، تستعدّ لتقليص القوى العاملة نتيجة التكامُل التكنولوجي، وأنّ 41 في المئة منها تعتزم توسيع استخدامها للمُتعاقدين، وبَحَثَ 34 في المئة منها رفْع قوّة العمل نتيجة التكامل التكنولوجي. وبصورةٍ أشمل توصَّل المُنتدى إلى أنّ “أكثر من 97 مليون وظيفة ستنشأ في اقتصاد الرعاية في الصناعات التكنولوجيّة مثل الذكاء الاصطناعي وإنشاء المحتوى”، لافتاً إلى أنّ المَهامّ التي سيحتفظ البشر فيها بميزتهم التنافسيّة تشمل الإدارة والاستشارات وصنْع القرار والتفكير والتواصُل والتفاعُل.

التفكير والابتكار أوّل المَهارات المطلوبة

في لغة الأرقام أيضاً يُقدِّر التقرير أنّه بحلول العام 2025، ستتراجع الوظائف الزائدة عن حاجة العمل من كونها تمثّل 15.4% من القوى العاملة إلى 9%، في حين ستنمو وظائف المُتخصّصين من 7.8% إلى 13.5% من إجمالي قاعدة الموظّفين في الشركة المُستطلَعة آراؤهم خلالها.

واللّافت أنّ تبنّي التكنولوجيا بدرجة أكبر، من شأنه أن يُترجَم إلى تغييرٍ في المهارات المطلوبة عبر الوظائف خلال السنوات الخمس المُقبلة، ما يعني أنّ فجوة المَهارات ستظلّ كبيرة. ولربّما هذا ما دَفَعَ بمؤسِّس ورئيس مُنتدى الاقتصاد العالَمي “كلاوس شواب” للتأكيد من خلال التقرير على أنّه “لدينا الوسائل اللّازمة لإعادة تأهيل الأفراد وتدريبهم بأعدادٍ غير مسبوقة، ولنشْر شبكات أمان دقيقة تحمي العُمّال العاطلين، ولإنشاء خرائط مُخصَّصة لتوجيه هؤلاء العمّال نحو وظائف الغد”.

ويأتي التفكير والابتكار في المرتبة الأولى على قائمة أفضل ذكورة مَهاراتٍ جديدة مثل التعليم التفاعُلي، واستراتيجيات التعلُّم، وحلّ المشكلات المعقّدة، والتفكير النقدي والتحلي 10 مهارات يعتقد أصحاب العمل أنّها ستنمو في غضون السنوات الخمس المُقبلة، لتُواصل الحفاظ على صدارة القائمة منذ النسخة الأولى لهذا التقرير والصادرة في العام 2016. لكنّ التقرير (الدراسة) الحديث أدخلَ على القائمة المل، والإبداع والمُبادَرة، القيادة والتأثير الجماعي، استخدام التكنولوجيا والمُراقَبة والتحكُّم، تصميم التكنولوجيا والبَرْمَجة، المرونة وتحمّل الضغوط، وحلّ المُشكلات والتصوُّر، على التوالي من المرتبة الثانية إلى العاشرة.

الطفرة التكنولوجيّة: فوائد ومَخاطِر

في إحدى المُقاربات التي يطرحُها الكاتب “دانيال ساسكيند”، الباحثُ الاقتصادي في جامعة أوكسفورد والمُستشار السابق للحكومة البريطانيّة، في كِتابه: “عالَم بلا عمل: التكنولوجيا، الأتْمَتَة، وكيف يجب أن نستجيب؟”، الصادر في كانون الثاني (يناير) 2020، تحت عنوان “عصر الرخاء”، يبدي اعتقاده أنّه على الرّغم من المَخاوف الناتجة عن التطوّرات التكنولوجيّة، إلّا أنَ التقدُّم التكنولوجي خلال المائة سنة المُقبلة، يُمكن أن يؤدّي إلى تحقيق رخاء لم يسبق له مثيل، وسيقودنا إلى عالَم ذي عمل أقلّ للعنصر البشري، “كما سيحلّ واحدة من أقدم مشكلات الإنسانيّة، وهي كيفيّة التأكّد من أنّ كلَ شخص لديه ما يكفي للعيش، وتضييق الفجوَة بين مَن يملكون ومَن لا يملكون”.

وبحسبِ الباحث نفسه، فإنّ هذا الرخاء سيُفرز ثلاث مُشكلات أساسيّة؛ تتمثّل الأولى في عدم المُساواة المرتبطة بكيفيّة توزيع هذا الرخاء الاقتصادي على كلّ فرد في المُجتمع، فيما تتعلّق الثانية بالقوّة السياسيّة لتحديد مَن الذي يتحكّم بالتقنيّات المسؤولة عن هذا الرخاء وبأيّة شروط، وتتمثّل الثالثة بالمعنى، ومعرفة كيفيّة استخدام هذا الرخاء، ليس للعيش من دون عمل فقط، بل للعيش بشكلٍ جيّد.

على مدى القرون القليلة الماضية، ساعدت التكنولوجيا العُمّال على أن يُصبحوا أكثر إنتاجيّة من أيّ وقت مضى، ما أدّى إلى ازدهارٍ اقتصادي غير مسبوق، ورفْع مستويات المعيشة العالَميّة. فعلى سبيل المثال، نما الاقتصاد الأميركي 15241 ضعفاً بين 1700 و2000. لكنْ لا يُمكننا التنكُّر لوجهَي الطفرة التكنولوجيّة التي لا تزال تُواجهها الإنسانيّة اليوم. يقول د. خالد ميّار الإدريسي رئيسُ “المَركز المغربي للدراسات الدوليّة والمُستقبليّة”: “هذه الطفرة لا مثيلَ لها من حيثُ الفرادة والجودة والتعقُّد والمَنافِع، ولكنْ كذلك من حيثُ تهديد المصير الإنساني”.

وفقَ الإدريسي، لا يختلف اثنان في أنّ “الآلة الذكيّة” تقدِّم للبشريّة خدماتٍ عظيمة وكبيرة، بحيث هي بديل عن الإنسان في القيام بأعمال شاقّة وخطيرة هي توفير للجهد البشري ووقاية للإنسان من آفات ومَخاطر العمل. وذلك في مجالات مَدنيّة وعسكريّة، مثل الإسهام (Drones) في مُراقَبة الهكتارات من الأراضي، ورصْد التحوّلات الجيولوجيّة والمناخيّة في مناطق نائية وصعبة الوصول، وكذلك إسهام الآلة الذكيّة في مجالات التصنيع والتعدين واستخراج المَوارِد الطبيعيّة، بل القيام بمَهامّ في الفضاء وسبْر أغواره.

وفي تعليقه على التنبيه الذي تضمَّنته الدراسة من خطورة اكتساح الآلة الذكيّة لسائر مجالات العمل ومَيادينه والتهديد بضياع 85 مليون وظيفة، سواء بالنسبة إلى الشركات المتوسّطة أم الكبرى يقول: “الآلة الذكيّة تتطوّر بشكلٍ كبير بفضل أبحاث الذكاء الاصطناعي، لكنّ الاستخدام المُكثَّف في مجال الصناعات التي توظِّف عمالة كبيرة، تحمل أرباب المصانع على الاستغناء عن الإنسان وبالتالي الاكتفاء بالأتْمَتة Automatisation وهذا يشكّل خطراً على العُمّال وضياع فُرَص عمل كثيرة؛ وبالتالي تدنّي القدرة الشرائيّة”.

مَصيرٌ واعِدٌ للبشريّة

بالعودةِ إلى المَهارات الجديدة التي ستنمو في غضون السنوات الخمس المُقبلة، يبدو أنّه لن يتمَ الاستغناء عن العمل البشري، وخصوصاً الإبداع والتفكير النقدي والابتكار والوظائف التي تفترضُ توافُر الذكاء العاطفي وحلّ المُشكلات المعقَّدة غير الرياضيّة والحسابيّة.

وهناك اتّجاهات فكريّة تُحذِّر من التطوّر المُفرط والفائق للآلة الذكيّة، وتُحذِّر من نشوب حربٍ مُقبلة بين البشر وبينها، يُقابلها اتّجاه “الما بعد إنساني” الذي يدعو إلى الاحتفاء بعصر الآلات الهجينة التي ستُمكّن الإنسان من تجاوُز ضعفه، بل تحقِّق له الخلود.

ويتوقّع كارزويل، صاحبُ كِتاب “الآلات الروحيّة”، بأنّه “قبل نهاية القرن المُقبل لن تظلّ الكائنات البشريّة هي أكثر الكائنات ذكاءً ومَقدرةً على كَوكب الأرض”، فهو يتنبّأ بتفوّق الآلات الذكيّة على الإنسان وبالتالي بروز وتشكُّل حضارة ما بعد الإنسان. وتتّجه الأبحاث في الذكاء الاصطناعي للتحضير إلى ذلك، والاعتقاد بأنّ الآلة الذكيّة ستتمتّع مُستقبلاً بما يفوق الخصائص الإنسانيّة، فهي لن تُحاكي الذكاء الإنساني، بل ستتجاوزه.

بدورهِ، يذهب ميشيو كاكو في كِتابه “فيزياء المُستحيل” إلى كون الذكاء الاصطناعي والنانوتكنولوجيا والهندسة الوراثيّة والمعلوماتيّة، ستقود العالَم إلى تخطّي حدود المُستحيل؛ ومن ذلك قُدرة الذكاء الاصطناعي على تجاوُز حدود قوانين الفيزياء المعروفة وسبْر أغوار الكَون المجهول وتمكين الإنسان من التحكّم “المطلق” بالطبيعة. لكنْ، وفي المُقابل، تذهب فئة عريضة من المُفكّرين إلى القول إنّ الطبيعة البشريّة غير قابلة للتجاوُز، لأنّ الإنسان يمتلك خصائص تُميّزه عن باقي الكائنات. كما أنّ الآلة الذكيّة مهما بلغت من تطوير ذاتها، فإنّها لن تُضاهي ما خَلَقَ الله.

هكذا، البشريّة في سباقِ تحدٍّ مع نفسها وقدراتها مع التكنولوجيا، لكنْ تبقى الآلة الذكيّة، مهما بلغت من تطوّرٍ و”تحديثات” من صنْع البشر. وفي ظلّ المَخاطِر الجمّة (المُشار إلى بعض جوانبها آنفاً)، فضلاً عن احتمال صعوبة التحكُّم ببعضها، فإنّ البشريّة مُطالَبةٌ بالتفكير في خلْقِ توازن بين مجال الآلة الذكيّة والميدان المحفوظ للإنسان، من أجل مصيرٍ بشريّ واعِد.

What Is a Robot? | WIRED

اترك رد

Your email address will not be published.