الذكاء الاصطناعي… وجهًا لوجه مع الطبيب

عميد خالد عبدالحميد

في عصرٍ تتسارع فيه الثورة الرقمية بوتيرة تفوق الخيال، لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرّد أداة مساعدة في قطاع الرعاية الصحية؛ بل تحوّل إلى مهندسٍ رئيسي يُعيد صياغة ملامحه. تخيّل عالماً يستطيع فيه “عقل رقمي” واحد استيعاب محتوى مائة مليون صفحة من الأبحاث والكتب الطبية في طرفة عين، لم يعد هذا ضربًا من الخيال العلمي، بل أصبح واقعًا ملموسًا يُعيد رسم قواعد اللعبة في الطب الحديث.

رحلة الطبيب نحو بناء خبرته تشبه تسلّق جبلٍ لا قمة له: سنوات من الدراسة الشاقة، وآلاف الساعات في ردهات المستشفيات، ومؤتمرات علمية لا تُعدّ ولا تُحصى. ومع ذلك، يبقى حجم ما يستطيع الاطّلاع عليه محدودًا أمام زخم المعرفة الطبية المتجددة يوميًا.

لكن، ماذا لو وُجدت خوارزمية ذكية قادرة على تحليل خمسين ألف دراسة طبية حديثة خلال دقائق معدودة؟ ما يفوق ما قد يقرأه أي طبيب طوال مسيرته المهنية. هذه لم تعد فكرةً مستقبلية، بل واقعًا يعيشه الطب الحديث.

في دراسة رائدة نُشرت في مجلة “نيتشر ميديسن”، في يونيو “حزيران” 2025، قادت الباحثة د. إيلينا غارسيا من جامعة “إمبريال كوليدج لندن”، فريقًا بحثيًا طوّر أنظمة ذكاء اصطناعي قادرة على التفوق على أطباء الأشعة في اكتشاف الأورام الرئوية الدقيقة.

وقامت هذه الأنظمة بتحليل أكثر من مليوني صورة شعاعية في زمنٍ قياسي، مبرهنةً على قدرةٍ غير مسبوقة على رصد أنماط خفية وسط بحرٍ من البيانات المعقّدة.

إن هذه “دائرة المعارف الطبية التي لا تنام” لا تقتصر على امتلاك ذاكرة رقمية ضخمة؛ بل تتمتع أيضًا بقدراتٍ خارقة في استكشاف العلاقات بين البيانات التي قد تغيب حتى عن أعين أمهر الأطباء، فاتحةً بذلك عصرًا جديدًا من التشخيص المبكر والدقة العلاجية.

تخيّل جرّاحًا يخطّط لعملية جراحية معقدة، ويستعين بنظام ذكاء اصطناعي حلّل عشرة آلاف حالة مماثلة من ثلاثين دولة ليقترح عليه أفضل المسارات الجراحية وأكثرها أمانًا، أو طبيبًا يتلقى تنبيهًا فوريًا عندما يرصد النظام الذكي خللًا محتملاً في جرعة دواء، بناءً على تحليل نصف مليون تقرير عالمي عن التفاعلات الدوائية!

هذا لم يعد سيناريو مستقبليًا؛ بل هو الدور الجديد الذي بات يؤديه الذكاء الاصطناعي داخل العيادات الحديثة.

كما كشفت دراسة حديثة صادرة عن كلية الطب بجامعة “هارفارد” تحت عنوان: “الطبيب الافتراضي: كيف يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل الرعاية الصحية” نُشرت في مايو “أيار” 2025 ضمن تقرير بحثي خاص صادر عن مركز “هارفارد للابتكار الصحي”، بإشراف البروفسور جون كابلان، بأن الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد أداة مساعدة أو أرشيفية في العيادة؛ بل أصبح شريكًا فعّالًا في اتخاذ القرار الطبي.

ووفقًا لأحدث تقرير للصحة الرقمية العالمية 2025 الصادر عن منظمة الصحة العالمية في جنيف خلال أبريل “نيسان” 2025، ساهمت هذه الأنظمة في:

رفع دقة الكشف المبكر عن الأورام السرطانية بنسبة تصل إلى 40 في المائة.

تقليل أخطاء وصف الأدوية بنسبة 55 في المائة.

في زمنٍ تتقدّم فيه تقنيات الذكاء الاصطناعي بوتيرةٍ متسارعة، سيجد الأطباء “غير المتصالحين مع الذكاء” أنفسهم خارج اللعبة. فمقاومة التغيير لم تعد خيارًا؛ بل تهدّد بإقصاء أصحابها من المشهد الطبي الحديث.

ولن يُقاس الطبيب المستقبلي فقط بمعرفته السريرية التقليدية، بل بقدرته على العمل جنبًا إلى جنب مع الذكاء الاصطناعي، وتسخير أدواته لصالح المرضى. وباختصار: الذكاء الاصطناعي لن يحلّ مكان الطبيب، لكنه سيحلّ مكان الطبيب الذي يرفض العمل معه.

وتتسابق المستشفيات الكبرى في لندن، وزيوريخ، وطوكيو لدمج أحدث أنظمة الذكاء الاصطناعي في صميم خدماتها الطبية.

والطبيب الذي يُهمل تسخير قدرات الذكاء الاصطناعي في مراجعة آلاف الأبحاث الجديدة شهريًا، وتحديث بروتوكولات العلاج باستمرار، سيجد نفسه مع مرور الوقت خارج دائرة المنافسة الطبية، مهما بلغت خبرته التقليدية.

إن مستقبل الطب يتمثل في شراكةٍ خلّاقة بين الإنسان والتقنية، فالذكاء الاصطناعي ليس خصمًا للطبيب، بل هو المساعد الذكي القادر على توسيع أفق معرفته وتعزيز قدراته السريرية إلى مستوياتٍ غير مسبوقة.

المصدر: الشرق الأوسط

By admin

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *