المحاكاة السلوكية للمجموعات.. من الحشود إلى التوقع السياسي
المحاكاة السلوكية للمجموعات.. من الحشود إلى التوقع السياسي
إم إيه هوتيلز – خاص
لم تعد النمذجة الحسابية مقتصرة على محاكاة الظواهر الفيزيائية أو البيئية فحسب، بل امتدت لتشمل السلوك الإنساني في بعده الجماعي، من مشي الحشود في الملاعب والمطارات، إلى التصويت في الانتخابات، وقرارات الشراء الجماعي، وحتى التفاعل مع الحملات السياسية أو الأزمات. هذه المنهجية تُعرف باسم المحاكاة السلوكية للمجموعات (Behavioral Simulation of Groups)، وهي أحد فروع الذكاء الاصطناعي المتقدمة التي تسعى لفهم كيف ولماذا يتصرف البشر كجماعات، لا كأفراد.
فما الذي تعنيه هذه المحاكاة؟ وكيف يمكن أن تتحول إلى أداة للتوقع السياسي، وتحليل القرارات الجماعية، وحتى التأثير عليها؟
من السلوك الفردي إلى الديناميكيات الجماعية
ترتكز المحاكاة السلوكية للمجموعات على مبدأ بسيط: الأفراد يتصرفون بطريقة مختلفة عندما يكونون جزءًا من مجموعة. هذه الفرضية، التي درسها علماء النفس والاجتماع لعقود، أصبحت اليوم قابلة للتطبيق الحسابي عبر نماذج متعددة العوامل تعتمد على قواعد بسيطة للسلوك الفردي، يتم تكرارها داخل بيئة اصطناعية لتوليد أنماط جماعية معقدة.
في المحاكاة، يمكننا “زرع” مجموعة من الكيانات الذكية (agents) في بيئة محددة، ومنح كل منها قواعد تفاعلية بسيطة مثل: التبعية، التجنب، المحاكاة، أو الاستجابة للضغط. حين تُترك هذه الكيانات لتتفاعل، تظهر أنماط تشبه سلوك الحشود، أو اتخاذ القرار الجماعي، أو حتى ظهور الزعامة أو المعارضة.
الحشود كأنظمة معلومات
من أشهر تطبيقات هذا المفهوم هو نموذج الحشود الذكية في إدارة الأزمات والمخارج، حيث يتم تحليل سلوك الناس في حالات الطوارئ لتقليل التكدس أو التدافع، من خلال محاكاة قراراتهم في أزمنة جزئية. هذه النماذج لا تفترض وعيًا كاملًا لدى الأفراد، بل تُعتمد على أنماط ردود الفعل الطبيعية، مما يجعلها واقعية ومفيدة في التصميم المعماري أو التخطيط الأمني.
لكن الأهم هو أن هذه النماذج بدأت تتجه إلى الفضاء السياسي، حيث تُستخدم في دراسة كيف يتشكل الرأي العام، وكيف تنتشر المعلومات أو الشائعات، وكيف تؤثر التفاعلات الاجتماعية في شبكات التواصل على التصويت أو الاحتجاج.
من الشارع إلى صندوق الاقتراع
في السياسة، باتت المحاكاة السلوكية أداة للتحليل الاستراتيجي. تُبنى نماذج تُحاكي التفاعل بين جماعات بشرية وفق سمات ديموغرافية، نفسية، وثقافية. تُدرس كيفية انتشار الأفكار، أو مقاومة القناعات، أو بناء الولاء لمرشح أو قضية.
يمكن لهذه النماذج، مثل نظام ABM (Agent-Based Modeling)، أن تتوقع حجم التفاعل مع حملة انتخابية، أو تقييم قابلية مجتمع ما للتعبئة أو الرفض. كما تُستخدم في محاكاة سيناريوهات الاحتجاجات، أو تقييم مدى حساسية الرأي العام لتغير بسيط في السياسات.
التحدي: الإنسان ليس معادلة
رغم الإغراء التقني لهذه المحاكاة، فإنها لا تزال تواجه تحديات عميقة. فالإنسان ليس آلة، وسلوك الجماعات لا يمكن توقعه دائمًا من خلال النماذج المبنية على القواعد. الانفعالات، الذاكرة الجمعية، والرموز الثقافية، كلها تلعب دورًا قد يصعب ترجمته إلى خوارزمية.
لكن، كلما زادت البيانات الحية، وتقدمت الخوارزميات في فهم اللغة والسلوك، زادت دقة هذه المحاكاة. ما يعني أننا أمام عصر تتحول فيه السياسة إلى مختبر رياضي، حيث يُختبر كل قرار وكل حملة قبل خوضها، في بيئة افتراضية.
المحاكاة كأداة تأثير لا مجرد تحليل
المفارقة الكبرى أن هذه النماذج لا تُستخدم فقط لفهم الجماعات، بل لتوجيهها. من خلال معرفة لحظة التأثير المثلى، ونمط التواصل المؤثر، يمكن تصميم تدخلات تُغيّر السلوك الجمعي في العمق. وهو ما يطرح تساؤلات أخلاقية حول حدود استخدام هذه الأدوات.
فهل تتحول المحاكاة السلوكية إلى آلية للتلاعب الجماعي؟
وهل نحن مستعدون لمجتمعات يُدار سلوكها السياسي في الظل، داخل معادلات لا نراها؟
اقرأ أيضًا: هندسة “التحفيز الداخلي” في النماذج الذاتية التعلم