وصف مبسط لغموض الذكاء الاصطناعي التوليدي

27

AI بالعربي – متابعات

لنبدأ من الخيال. ولنستعد فيلم “لعبة التقليد” Imitation Game (2014) الذي قدم خيال السينما عن مبتكر الذكاء الاصطناعي الحديث آلن تورينغ (1912- 1954) وابتكاره آلة ذكية استخدمها في تفكيك ألغاز شيفرة الجيش النازي في الحرب العالمية الثانية. في لقطة معبرة تألق فيها الممثل بنديكت كومبرباتش، يطلق تورينغ ما يشبه الرؤية عن أن الآلات سيكون لها ذكاء يشابه ما لدى الإنسان لكنه مختلف عنه، وعلى البشر التعايش معه.

وفي خريف 2022، حدثت قفزة نوعية أدت إلى ظهور الذكاء الاصطناعي التوليدي  Generative Artificial Intelligence الذي سجل قدرته على اجتياز “اختبار تورينغ” الذي صنعه العالم الراحل ليكون محكاً عن وصول ذكاء الآلات إلى مرحلة “التشابه” مع البشر.

بعدها، ضج العالم بنقاشات ضخمة، لوحظ فيها بسهولة أن الأصوات الأعلى والأعمق، جاءت من صناع الذكاء الاصطناعي على غرار جيوفري هينتون أو “عراب الذكاء الاصطناعي” الذي ترك منصبه في “جوجل” ليتفرغ لتحذير البشرية من الوجه المظلم لتلك القفزة النوعية في ذكاء الآلات، التي لا تتناقض بالطبع، مع كونها إنجازاً علمياً إنسانياً متألقاً. وليس ذلك سوى نقطة من فيض مماثل.

ليس في الأمر أي تناقض، لكن هنالك من اعتاد على الرؤى التبسيطية المكتوبة بالأبيض والأسود، ويصعب عليه التعود على مزيج الألوان والتناقضات والتشابك والتنوع.

بمعنى ما، تشبه القفزة النوعية للذكاء التوليدي تلك الطفرة النوعية التي أدخلت المتفجرات إلى طاقة الذرة. لعل نقطة البداية لفهم تلك الطاقة ونقلتها هو أن الذرة للمرة الأولى تاريخياً، لم تعد أبسط شكل للمادة، بل صارت مصدراً لسيول إشعاعات متدفقة وطاقة هائلة مدمرة لكنها فتحت الأفاق الواسعة لاستفادة السلمية منها. وترافق ذلك مع متغيرات هائلة النظم الدولية والعيش الإنساني بأكمله.

ومع الذكاء التوليدي، دخل الذكاء الاصطناعي مرحلة نوعية جديدة، الأرجح أن النقاش حول جوانبها المتناقضة يستلزم الانطلاق من أنها قفزة نوعية بات فيها ذكاء الآلات “يولد” معرفة من نوع خاص. وباستيحاء كلمات تورينغ، الذكاء التوليدي قد “يشابه” ما للبشر لكنه مختلف عنه، ولعله متوجب على لبشر التعايش معه.

ولعل النقطة الأشد حساسية تتمثل في أن الذكاء التوليدي غير مفهوم حتى بالنسبة إلى صُنّاعه، بمعنى طريقة توصّله إلى ما يقدمه من معرفة ليس معلوماً ولا شرح عنه ولا تعرف خطواته ولا مساراته. ولم يتردد إريك شميدت الذي ترأس وأدار “جوجل” سنوات مديدة، في التشديد على أن حل شيفرة لغز آلية الذكاء التوليدي يشكل تحدياً للأجيال الحاضرة والمستقبلية. وكذلك أشار شميدت إلى أن البشرية قد لا تتوصل إلى ذلك، ما يعني أنها تسير إلى مستقبل غامض “تتشارك” فيه مع ذكاء مجهول لديها. واستطرد ليشبه ذلك بإنه إبحار في مياه غير معروفة، من دون امتلاك خريطة ولا بوصلة.

لماذا يتوجب على البشرية خوض تلك المغامرة؟ لا أقل من أن ذكاء الآلات المتطور هو إنجاز تقني متألق بات في صلب نسيج العلوم الإنسانية، وكذلك لا أقل من أن تطور الحضارة يوجب زيادة الانخراط مع الذكاء التوليدي، وليس الهرب منه. إنها وضعية مملؤة بالغموض وبالتناقضات والتشابكات، ما يعني أنها تكثيف آخر لمعنى الوجود الإنساني.

خمس ومضات عن ظلام “عقل” الآلات

قبل الخوض في المياه المضطربة لتلك القفزة في ذكاء الآلات، لنبدأ من أنها تُحدِث فجوة بين المعرفة وتراكم المعارف وتداولها بواسطة طرق كالكتب، وبين الفهم والإدراك لدى العقل الإنساني، للمرة الأولى في تاريخ الحداثة ومشروعها الحضاري. أنت تسأل الذكاء التوليدي، فيجيبك بنص متقن ظاهرياً، لكنها لا تبين كيف توصلت إليه ولا المصادر التي استندت إليها. قارن ذلك مع حصولك على معارف من كتاب، ستجد أنها على عكس ذلك.

ومنذ بداية الحداثة، أي منذ أن أوكل الإنسان أمر المعرفة إلى عقله وأدواته في التفكير، وليس إلى الغيبيات والأساطير، تبلور نوع من منهجية علمية تقوم على التثبت من المعلومات يشمل حتى تكرار التجارب وتطبيق الخلاصات مع مراقبة النتائج للحكم على صلاحيتها. وبالتالي، يحصل العقل على المعرفة مع ما يناسبها من فهم وإدراك واستيعاب. لا شيء من هذا يحصل مع الذكاء التوليدي.

واستباقاً، وفق رأي البروفيسور في “معهد ماساشوستس للتقنية”، دانيال هوتن لوشر، يؤدي الذكاء التوليدي إلى زيادة المعارف عبر خُلاصات، لكن من دون أن يرافقها أي تفسير لها، وبالتالي، من دون أي وعي أو إدراك بها. ووفق لوشر، إنه شرخ غير مسبوق بين المعرفة والمعلومات وبين الوعي والإدراك، ويشكل ذلك تناقضاً محوطاً بظلام اللغز.

ومن المستطاع تجميع خمس ومضات أساسية عن المسارات المتبعة في صنع الذكاء الاصطناعي التوليدي، استناداً إلى مقالات ودراسات نشرت في “فورين أفيرز” و”وول ستريت جورنال” و”اندبندنت” و”كوانتا مغازين” وموقع “تيكنولوجيكو دي مونتيري” Tecnológico de Monterrey وغيرها.

أولاً، تتأتى الميزة التوليدية في الذكاء الاصطناعي من عمليات معقدة تشمل تقديم البيانات إلى الآلات عبر عملية تعليم الآلات المستندة إلى ملاحظة الأنماط Pattern Recognition والتقاط الروابط.

إذ يجري تدريب الآلات الذكية فتصنع قوالب (أو تمثيلات) تصبح جاهزة لديها Pretrained Representations. تستخدم الآلات تلك القوالب في صوغ الإجابة عن الأسئلة، بعد أن تبحث بين قواعد البيانات الواسعة، بما في ذلك المعرفة السارية والمتجددة على الإنترنت، عما “ترى” أنه أكثر المعلومات قرباً لما يبحث عنه المتسائل. وإذ يعتمد الذكاء التوليدي على خوارزميات رياضية تُسَيِّرْ عملية الانتقاء والتعرف إلى الأنماط، ومع غياب التفكير المجرد لديه ما يعني أنه لا يفهم المعلومات التي تتعامل خوارزمياته معها، يضحي عرضة للأخطاء المتكررة التي يسميها المتخصصون “هلاوس الآلات” Machine Hallucinations [انظر في موقع “اندبندنت عربية” مقالة بعنوان شرح عن الذكاء الاصطناعي التوليدي في أربعة أسئلة أساسية].

تتطلب هذه العملية اختصاصيين متمرسين في الحوسبة وكمبيوترات خارقة Super computers، إضافة إلى إدخال كميات هائلة من البيانات، مع تمويل ضخم. يعني ذلك أن النماذج الضخمة الأساسية Basic Large Models للذكاء التوليدي ستتركز تدريجياً في أيدي يتضاءل عددها باستمرار، نظراً لأن تعقيدها يتزايد باستمرار، بل يتضاعف كل بضعة أشهر. ثمة أمر مجهول آخر. ليس معروفاً كيف يصنع الذكاء التوليدي قوالبه المتتالية، ولا كيف يستخدمها في كل إجابة. ولعل ذلك متصل ذلك مع سمة أخرى هي ظهور قدرات مفاجئة في نماذج الذكاء التوليدي، بمعنى أن العلماء لا يعرفون كيف توصلت الآلات إليها! ومثلاً، عَلَّمَ أحد النماذج التوليدية نفسه اللغة البنغالية استناداً إلى كميات ليس فائقة الضخامة منها. ماذا ستفاجئنا الآلات به؟

ثانياً، لنفكر في عقد مقارنة بين المنهج العلمي للبشر وبين الذكاء الاصطناعي التوليدي.

إذ تتضمن المنهجية العلمية البدء بصوغ فرضية معينة، يجري وضعها على محك التجربة والاختبار التي يستقرأ عقل الإنسان خلاصات منها، ما يؤدي إلى تطوير الفرضية أوتغييرها بغية صوغ قواعد عامة أوقوانين وخطط (تلك طريقة الاستقراء Induction). ثم تصاغ تجارب ومؤشرات بناء لتلك القوانين (وهذه طريقة الاستنباط Deduction). وإذا أثبت الاستنباط صحة القوانين المستقرأة من التجارب، تتحول تلك الفرضية إلى معرفة يمكن الاستناد إليها في صوغ فرضية اخرى، وهكذا دواليك.

مثلاً، لاحظ نيوتين أن الأشياء تسقط بفعل قوة الجاذبية (التفاحة الشهيرة)، فأخضع ذلك إلى تجارب استقرأ منها قوانينه المعروفة في الفيزياء. وبعدها، استنبطت تجارب بغية التثبّت مما استقرأه نيوتن، على غرار التجارب لإثبات أن لكل كتلة فيزيائية جاذبية تعتمد على كتلتها. وبعدها تحولت فرضية نيوتن الأصلية إلى معرفة أساسية. نشرت تلك المعارف في كتب تشرح خطواتها. ولذا، تمكن علماء آخرون من التثبت من كل خطوة في الاستقراء والاستنباط، ومحصوا كل تجربة استقرأت منها تلك القوانين. لا شيء يشبه ذلك على الإطلاق في الذكاء التوليدي، بل أن المعارف التي ينتجها تتغير كلما تغير السؤال أو كلماته أو سياق الحوار معه. في المقابل، إنها إجابات لها أسبابها لكنها ليست منطقياً وغير مبررة عقلياً.

واستطراداً، ربما يفيد التفكير في الذكاء التوليدي بوصفه مغامرة ذكاء الآلات في صنع وعي أو إدراك معرفي، غير ذلك الموجود لدى البشر. في المقابل، يجب الحذر من النظر إلى ذكاء الآلات بوصفه حقائق خالصة، بل الاحتكام إليها أيضاً. يسمى ذلك “الانحياز المعرفي لمصلحة الآلة المؤتمتة” Automation Bias، واعتبره البروفيسور دانيال هوتن لوشر، من الأفخاخ المُدمِّرة في العلاقة بين الإنسان والآلة. وثمة فخ آخر معروف تماماً، يتلخص في أن الذكاء التوليدي يُلزَمْ، حتى الآن، بإعطاء إجابات. ويبحث عنها مثلاً عبر إعطاء الأولوية للأكثر عدداً بين الكلمات المتصلة بنمط بالسؤال، ويلي ذلك الكلمات الأقل عدداً وهكذا دواليك. وقد يفسر ذلك جزءاً من سبب ظهور فبركات Fabrications في إجابات الذكاء التوليدي. وقد نشرت “اندبندنت عربية” عدداً من المقالات عن تجارب كثيرة جداً ظهرت فيها تلك الفبركات.

مفارقة غودل ونقص الكمال في الرياضيات

ثالثاً، لا يقدر الذكاء الاصطناعي بأشكاله كافة على التفكير المجرد Abstract Thinking.

لقد شدد بيل غيتس بشكل خاص على ذلك الملمح معتبراً إياه من أساسيات الفوارق بين الذكائين البشري والاصطناعي. وأورد غيتس أن الأخير لديه مشكلة خاصة في التعامل مع الأعداد والحسابات.

,يعتبر التفكير المجرد من أهم سمات العقل البشري، بل ربما تكون سمته الحاسمة، ومعناه فصل المعاني والأفكار عن معطياتها المادية والحسية المباشرة. تعتبر اللغة والأعداد من أبرز الأمثلة على التفكير المجرد. وإذا راقبت تطور المدارك لدى الإنسان، ترى أنها تبدأ من الحواس الخمسة والتعامل مع الموجودات المباشرة، ثم ترتقي تدريجاً، إلى المدركات حسية، وتضاف إليها المعاني المنقولة بالكلمات وما يتحصله العقل من الأشياء والتحارب التي يتوسع فهمها تدريجاً، كي تصبح مفهوماً عاماً قابلاً للاستخدام خارج كل الأشياء المباشرة المتصلة بها. إنه المسار بين القول للطفل الصغير أن يده أوقع شيء على الطاولة وبين الطفل في التاسعة أو العاشرة الذي يستطيع فهم معنى عبارة “كل شيء له سبب”. بالعودة للذكاء التوليدي، إنه ينقل المحتوى (كلمة، نص، رسم، موسيقى…) لكنه لا يفهمها، ولا يصنع مفهوماً مجرداً عنها. ويستطيع البحث عن تفاصيل محتوى ما، والتفتيش عنه وعما يتصل به، مثلاً الكلمة مع ما يشبهها في الحروف وما يتصل بها كما يظهر في علوم اللغة المحوسبة.

استكمالاً، إنها عملية رياضيات تتحكم فيها رياضيات الاحتمالات Probability Mathematics. لكن الرياضيات مشكلة بحد ذاتها. ولنتذكر “مفارقة غودل” Gödel paradox  على إسم عالم الرياضيات الأميركي الذي لاحظ منذ سبعينيات القرن العشرين أن معادلات الرياضيات مهما بلغت دقتها، عرضة للوقوع في الأخطاء وتبني ما لا يمكن إثباته. اعتبر ذلك تغييراً نوعياً أحدثه غودل الذي مارس الفلسفة أيضاً، ونقض به المنهجية الراسخة التي أرساها الفيلسوف رينيه ديكارت الذي أرسى منهجيته على أن الرياضيات علم كامل، بل يمثل الكمال، في التفكير والمنطق. ويحتاج ذلك إلى نقاش آخر.

رابعاً، المستقبل لذكائين في حضارة واحدة!

لعله تلاعب لفظي يذكر بشعار “نظامين وصين واحدة”، لكنه يصلح لتلمس أن الذكاء الاصطناعي تخطى عتبة معينة حينما وصل المرحلة التوليدية. ربما وصل مبكراً، وفق ما يلمس مثلاً من مناشدة إيلون ماسك ومجموعة علماء متضلعين بالذكاء الاصطناعي، بمعنى أنه بحد ذاته يحتاج إلى مزيد من السيطرة والضبط والتطوير، وبنية معرفية مختلفة. [أنظر في موقع “اندبندنت عربية” مقال الذكاء الاصطناعي التوليدي منفلت من التحكم السيبراني].

سواء أصح ذلك أم لا، يجدر تذكر أن الذكاء التوليدي إنجاز علمي تقني مذهل ووضع بين أيدي البشر أداة فائقة التطور يمكن استخدامها في تطوير العلوم والمعرفة والمجتمع والثقافة والسياسة، بل حتى مجمل المسار الإنساني.

إذ تكفي الإشارة إلى أن ما ينتجه العقل الإنساني ككل في مسار الحضارة، بات كميات هائلة ومتراكمة ومتشابكة بحيث إنها تستعصي على عقل الأفراد، بل ربما ثمة استعصاء بشري في ذلك. وبالتالي، تعتبر الحواسيب بما تمتلكه من قدرات في تخزين المعلومات والتعامل معها ومناقلتها وإجراء حسابات ومعادلات عليها، من أهم الآلات التي ابتكرها الإنسان، ربما لأنه حاول تقليد عقله، وهو أساس وجوده، في تلك الآلات.

وفي الأقل منذ الحرب العالمية الثانية، تسارع المسار العلمي والثقافي بشكل أسرع مما حصل في تاريخ البشرية المعروف كله، بفضل التآزر بين ذكائي البشر والآلات. لم يعد فصل ذلك المُرَكَّب مستطاعاً، لكن أحد طرفيه (الآلة) كأنه في حال جامحة أو شديدة الغموض. بالطبع، يجب الاستمرار في تطوير الذكاء التوليدي كي يصبح أكثر موثوقية ودقة ومأمونية، لكن تآزر الذكائين بات أمراً مفروضاً بعد أن عبرت الآلات مرحلة نوعية في تطور شبهها مع العقل الإنساني. يفترض ذلك تطوراً في العلوم التي تدير الآلات كعلم “ميتا معرفة” Meta Cognition، أي المعرفة التي تتشابك مع المعلومات والبيانات والخلاصات ولا تكون بالضرورة جزءاً منها.

أفق منفتح ومدلهم للذكاء الاصطناعي الخارق

في علوم الجينات والأدوية، أدى التوسع في استخدام أشكال مختلفة من الذكاء الاصطناعي والتوليدي إلى قفزات ربما احتاجت قروناً من دونه. إذاً، يحتاج العقل البشري إلى ذكاء الآلات. ووفق ملاحظة من غيتس، تعبر الإشارة الكهربائية في دماغ البشر بسرعة تقل 100 ألف مرة عما تفعله في رقاقات الكومبيوتر. واستكمالاً، عقد غيتس الأمل على ظهور ذكاء اصطناعي خارق Super Artificial Intelligence، بمعنى أنه يقدر على تكرار كل عمليات الذكاء التوليدي، في كل حرف وكلمة ونقطة ونوتة موسيقى وموجة ضوء وغيرها.

وفي المقابل، رأت مجموعة واسعة من العلماء أن ذلك الأمر قد يكون الوصفة الأقصر في تدمير الحضارة لنفسها. ولربما ظهرت حلول أخرى لتلك المعضلة. أياً كان الحال، ثمة حاجة ملحة إلى تطوير النظام التعليمي والفكري والثقافي كي تتعاظم قوة العقل البشري في التعامل مع ذكاء الآلات، والاستنطاق النقدي لنتائجه وتراكيبه وخلاصاته.

خامساً، يسير الذكاء الاصطناعي التوليدي بصورة شبه محتمة نحو التعدد في التعامل مع العقل الإنساني وإنتاجاته، بل ربما طور أداته الخاصة في استكشاف الكون!

في البداية، أطلق الذكاء الاصطناعي التوليدي في نموذجه اللغوي، خصوصاً “تشات جي بي تي”، في خريف عام 2022.

ووفق ما توقعه صناع ذلك الذكاء، لم تكن اللغة سوى نواة أو بعداً أو منحى Mode ونموذجها لم يكن سوى الهيكل أو الترسيمة العامة. بعدها تسارع ظهور نماذج كبرى أخرى استندت إلى ترسيمات أخرى غير اللغة. ونال نموذج الذكاء الاصطناعي التوليدي المخصص لترسيمة أو بُعدْ الرسم كذلك الذي يستند إليه مختبر “ميدجورني” و”دالي”، أكثر من جائزة فنية. وأحدث نموذج الموسيقى ضجة بصنعه أغنية بصوت راحلين من فرقة البيتلز. تعمل تلك النماذج بنفس طريقة “تشات جي بي تي”، مع استبدال الكلمة بالنوتة وضربة الريشة والألوان.

ماذا يحدث إذا تولى الذكاء الاصطناعي أمر الحصول المباشر على بياناته، كأن يجمعها من صور الكاميرات الرقمية مباشرة، ويستخدمها في صنع قوالبه الداخلية وأنماط إجاباته؟ يسمى ذلك الذكاء الاصطناعي المتعدد الأبعاد /المناحي Multi Modal GAI؟

ثمة شيء آخر. تعتبر القدرة على تنظيم البراهين عن الأشياء مدخل إلى تثبيت الحقائق بشأنها. من الصعب تصور أن أدمغة البشر البطيئة نسبياً تستطيع أن تتفوق على الذكاء الاصطناعي التوليدي المتعدد الأبعاد. واستطراداً، ألا يعني ذلك أن ذكاء الآلات سيكون الطرف الذي يحدد ويحسم في شأن الحقائق؟ كيف ينظر البشر إلى أنفسهم وعلاقتهم مع الحقيقة التي يسعون إلى استكشافها؟ هل ستتغير الحقيقة بحد ذاتها، خصوصاً إذا اعتبرنا أنها ما يستطاع الوصول إليه بواسطة التفكير، سواء باستخدام العقل البشري أو ذكاء الآلات المتطورة؟

يبدو ذكاء الآلات كأنه يصعد سلم المعرفة بداية من التعرف على النمط والروابط في الذكاء الاصطناعي ووصولاً إلى التركيب المنطقي في المرحلة التوليدية، ثم بداية الانتقال إلى الذكاء المتعدد الأبعاد؟ ما النظام الحضاري المرتسم في ذلك الأفق، سواء في النظام الدولي أو في المجتمعات والأفراد؟ ماذا عن التفاوت بين الدول والمجتمعات والميول المستمرة إلى الهيمنة والسيطرة لطرف أو أطراف معينة، على بقية البشرية كلها؟ ماذا لو أجج ذكاء الآلات المتطور كل تلك التفاوتات؟

إذا سلم البشر بتفوق الذكاء الاصطناعي عليهم، هل يسلمون له القيادة، على نحو ما “طالبت” به الروبوت الأنثى صوفيا أخيراً؟ هل نشهد قيادات كاريزمية تقود ملايين البشر، بل ربما مليارات، خلفها بتسليم شبه ديني، بدعوى أن “عقلها” وذكاءها يعطيان حقائق لا يستطيع البشر دحضها؟ هل يكون التفكير النقدي مدخل النجاة للبشرية في حضارة يقودها ذكاءان؟ الأسئلة كأنها لا تنتهي.

اترك رد

Your email address will not be published.