AI بالعربي – متابعات
لم تكن السخرية يومًا مجرد أسلوب لغوي، بل كانت موقفًا، وذكاءً سياقيًا، وقدرة على التقاط التناقض في لحظته الحيّة. السخرية، في أصلها، فعل إنساني شديد الارتباط بالخبرة، بالزمن، وبالإحراج الاجتماعي الذي لا يمكن التنبؤ به. لكنها اليوم، في زمن الذكاء الاصطناعي، تدخل مرحلة جديدة: مرحلة السخرية المعلّبة، الجاهزة للاستخدام، الخالية من المخاطرة، والمضبوطة خوارزميًا.
ما يُنتَج الآن تحت مسمّى “نص ساخر” ليس بالضرورة مضحكًا، لكنه مألوف. يبتسم له القارئ لأنه تعرّف على شكله، لا لأنه فاجأه. وهذا التحوّل لا يعكس ضعفًا في قدرة الآلة على التقليد، بل يعكس نجاحها المفرط في محاكاة ما أصبح شائعًا ومقبولًا.

السخرية التي تنتجها النماذج اللغوية لا تُخطئ كثيرًا، لكنها لا تُحرج أحدًا أيضًا. لا تصيب في مقتل، ولا تفتح جرحًا. هي سخرية بلا ثمن، بلا توتر، بلا مخاطرة. وهذا تحديدًا ما يجعلها مختلفة جذريًا عن السخرية البشرية.
من السخرية كخطر إلى السخرية كصيغة
تاريخيًا، كانت السخرية فعلًا محفوفًا بالمخاطر. الساخر الجيد كان يغامر بسوء الفهم، بالغضب، أحيانًا بالعقاب. السخرية كانت تتغذّى على هذا الخطر. أما اليوم، فالنموذج اللغوي يتعلّم بسرعة أن السخرية الآمنة هي الأكثر قابلية للانتشار.
الخوارزمية لا تفهم “الجرأة”، لكنها تفهم “القبول”. تتعلّم أن النكتة التي تُغضب فئة ما تُقابَل بالرفض، بينما النكتة العامة، الخفيفة، التي تلمس تناقضًا بلا تسمية، تمرّ بسلام. ومع الوقت، يتكرّس نمط واحد من السخرية: ذكية شكليًا، ملساء فعليًا.
يعلّق أحد نقّاد الثقافة الرقمية قائلًا: “الآلة لا تقتل السخرية، لكنها تدرّبنا على سخرية بلا أنياب.”
السخرية بوصفها إعادة تدوير
النموذج لا يخترع مفارقة جديدة، بل يعيد تركيب مفارقات مألوفة. يسحب النبرة من آلاف التغريدات، المقالات، النصوص الساخرة السابقة، ويعيد إنتاجها بصيغة محسّنة لغويًا. النتيجة سخرية مألوفة منذ السطر الأول.
القارئ يضحك لأنه “يعرف هذا النوع”. لأنه رأى مثله من قبل. الضحك هنا ليس استجابة للمفاجأة، بل للتعرّف. وهذا ما يجعل السخرية المعلّبة أشبه بمنتج ثقافي مستقر: لا يصدم، لا يزعج، ولا يترك أثرًا طويلًا.

غياب السياق الحيّ
السخرية الحقيقية تحتاج إلى سياق حيّ: لحظة، مكان، توتر اجتماعي. تحتاج إلى معرفة متى تُقال، ومتى تُسكت. النموذج اللغوي، مهما تطوّر، يتعامل مع السياق كبيانات، لا كخبرة. هو يعرف أن هناك “موضوعًا شائعًا”، لكنه لا يشعر بثقله.
لهذا، تبدو السخرية الآلية أحيانًا في غير وقتها، أو بلا ضرورة. تُقال لأن الصيغة تسمح، لا لأن اللحظة تستدعي. وهذا ما يفرغها من بعدها النقدي. تصبح تعليقًا، لا موقفًا.
من نقد السلطة إلى تزيينها
في أكثر أشكالها فاعلية، كانت السخرية أداة لمساءلة السلطة. تسلّط الضوء على التناقض، وتعرّي الخطاب الرسمي. لكن السخرية المعلّبة نادرًا ما تفعل ذلك. هي تميل إلى نقد عام، غير مسمّى، لا يوجّه إصبع الاتهام بوضوح.
السبب ليس خوفًا أخلاقيًا، بل منطق تدريبي. النصوص التي تنتقد بحدة أقل حضورًا في البيانات العامة، أو أكثر إثارة للجدل. النموذج يتعلّم أن الابتعاد عنها أكثر أمانًا. وهكذا، تتحوّل السخرية من أداة تفكيك إلى أداة تلطيف.
السخرية بلا مؤلف
جزء من قوة السخرية البشرية كان مرتبطًا بصاحبها. نعرف الساخر، نعرف موقفه، نعرف تاريخه. السخرية الآلية بلا توقيع. لا يمكن محاسبتها، ولا نسبها إلى ذات. وهذا الغياب يجعلها أخف وزنًا.
حين لا نعرف من يسخر، يصبح من السهل استهلاك السخرية دون التفكير في تبعاتها. نضحك وننتقل. لا حوار، لا ردّ، لا اشتباك. السخرية تتحوّل إلى محتوى عابر.

هل المشكلة في الآلة أم في الذائقة؟
قد يكون من السهل إلقاء اللوم على الذكاء الاصطناعي، لكن الحقيقة أكثر تعقيدًا. النماذج تتعلّم مما نكافئه. حين ينتشر هذا النوع من السخرية، فذلك لأن الجمهور يتفاعل معه. السخرية المعلّبة تلبي رغبة في الضحك السريع، دون تفكير، دون قلق.
بهذا المعنى، الآلة لا تفرض ذائقة جديدة، بل تضخّم ذائقة موجودة. لكنها، في تضخيمها، تُسرّع تحوّل السخرية من فعل نقدي إلى زخرفة لغوية.
السخرية كأداة تهدئة
بدل أن تُقلق، تُهدّئ. بدل أن تفتح سؤالًا، تُغلقه بابتسامة. هذا هو أخطر ما في السخرية المعلّبة. أنها تمنح إحساسًا زائفًا بالنقد. نضحك، فنشعر أننا “فهمنا” التناقض، لكننا لا نتحرّك أبعد من ذلك.
بعض المفكرين يرون في هذا التحوّل جزءًا من اقتصاد الانتباه: السخرية الخفيفة تُبقي المستخدم متفاعلًا دون أن تدفعه إلى موقف. ضحك بلا أثر، نقد بلا تبعات.
هل تستطيع الآلة أن تكون ساخرة حقًا؟
تستطيع تقليد السخرية، لا عيشها.
لماذا تبدو السخرية الآلية متشابهة؟
لأنها تعتمد على أنماط ناجحة مسبقًا.
هل هذا يعني نهاية السخرية؟
لا، لكنه يغيّر مكانها وشروطها.
كيف يميّز القارئ السخرية الحقيقية؟
من أثرها، لا من صياغتها.
هل يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي لإنتاج سخرية نقدية؟
نظريًا نعم، لكن ذلك يتطلب شجاعة في البيانات والتصميم.
في النهاية، السخرية المعلّبة ليست فشلًا تقنيًا، بل علامة ثقافية. علامة على زمن يفضّل الابتسامة السريعة على الضحك المربك، والتعليق الذكي على السؤال المؤلم. الذكاء الاصطناعي لا يسخر لأنه لا يشعر، لكنه يكتب سخرية تُشبهنا أكثر مما نحب أن نعترف. والسؤال الذي يظل معلقًا: هل نضحك لأن النص ساخر فعلًا، أم لأننا اعتدنا سخرية لا تطلب منا شيئًا سوى أن نبتسم ونمرّ؟
اقرأ أيضًا: التبسيط المُفرط كمخدر ثقافي








