AI بالعربي – متابعات
لم يكن الإحساس بالجمهور يومًا علمًا دقيقًا، بل مهارة حدسية تتكوّن عبر الزمن. الصحفي، والكاتب، والفنان، والسياسي، وحتى التاجر في السوق الشعبي، كانوا يعتمدون على قدرة غير قابلة للقياس: أن يشعروا بمن أمامهم. نبرة الصوت، الصمت المفاجئ، تغيّر المزاج، اللامبالاة، الحماس، التوتر… كلها إشارات لا تُكتب في تقارير، لكنها تصنع القرار. اليوم، ومع صعود الخوارزميات، يجري استبدال هذا الإحساس بشيء آخر: نموذج يتنبأ بدل أن يشعر، ويقيس بدل أن يحدس.
لم يعد السؤال: ماذا يريد الجمهور؟
بل: ماذا تشير البيانات إلى أن الجمهور سيتفاعل معه؟
وهنا يبدأ التحوّل العميق.

الخوارزميات لا ترى الجمهور ككيان حيّ متقلّب، بل كأنماط سلوكية. كل إعجاب، كل تعليق، كل توقّف عن المشاهدة، كل تمرير سريع، يتحوّل إلى إشارة رقمية. ومع تراكم هذه الإشارات، يتكوّن ما يبدو كصورة دقيقة عن الجمهور. لكنها صورة بلا ملامح، بلا تناقضات، بلا مزاج عابر. صورة ثابتة لشيء متحرّك بطبيعته.
من الحدس إلى التنبؤ
في الإعلام التقليدي، كان الإحساس بالجمهور يعني المخاطرة. قد يخطئ الكاتب، وقد يُساء فهمه، وقد يفشل العمل. لكن هذا الفشل نفسه كان جزءًا من العلاقة. أما في البيئة الخوارزمية، فالفشل غير مرغوب. كل شيء يجب أن يكون محسوبًا، متوقّعًا، قابلًا للقياس. وهكذا، تحلّ الخوارزمية محل الحدس، لأنها تقلّل المخاطرة.
لكن ما الذي يُفقد في هذه العملية؟
يُفقد ذلك التوتر الخلّاق بين المرسل والمتلقّي. يُفقد عنصر المفاجأة. يُفقد ذلك الشعور بأن العمل وُجّه إلى بشر، لا إلى مؤشرات أداء.
الخوارزمية لا تسأل: هل سيتأثر الجمهور؟
بل: هل سيتفاعل؟
وهذا فرق جوهري.
الجمهور بوصفه سلوكًا لا وعيًا
حين يُختزل الجمهور في بيانات، يتحوّل من كيان واعٍ إلى سلوك قابل للتوقّع. لا يُنظر إليه كمن يفكّر، بل كمن يستجيب. وهذا ينعكس مباشرة على المحتوى. تُفضَّل العناوين التي تجذب، لا التي تُربك. تُقدَّم الأفكار التي تؤكّد القناعات، لا التي تهزّها. يُكافأ ما يُستهلك بسهولة، لا ما يتطلّب جهدًا.
يقول أحد باحثي الإعلام الرقمي: “الخوارزميات لا تفهم الجمهور، لكنها تفهم كيف تُبقيه.”
وهذه الجملة تختصر التحوّل كله.

حين يختفي الصمت من الحساب
الإحساس بالجمهور كان يتضمن الإصغاء للصمت. الصمت كان دلالة: ملل، رفض، تفكير، أو حتى احترام. أما الخوارزميات، فلا تفهم الصمت. ما لا يُقاس لا يُحتسب. وما لا يُحتسب لا قيمة له. وهكذا، يُعاد تشكيل المحتوى ليملأ كل فراغ، وليمنع أي لحظة توقف قد تُفسَّر على أنها “فقدان تفاعل”.
في هذا السياق، لا يعود الجمهور شريكًا في المعنى، بل هدفًا للاستبقاء. لا يُخاطَب بوصفه عقلًا، بل بوصفه زمن مشاهدة.
هل الإحساس بالجمهور كان وهمًا؟
قد يقول البعض إن الإحساس بالجمهور لم يكن يومًا دقيقًا، وأن الخوارزميات أكثر عدلًا لأنها تعتمد على أرقام لا على انطباعات. لكن هذا الطرح يتجاهل أن الإبداع والتواصل ليسا مسألة دقة فقط. الإحساس بالجمهور كان علاقة، لا معادلة. كان يتضمن سوء الفهم، والاختلاف، وحتى القطيعة أحيانًا. وهذه العناصر، رغم قسوتها، كانت تمنح الخطاب عمقًا.
الخوارزمية، بطبيعتها، تميل إلى التنعيم. تقلّل الحواف الحادة. تفضّل ما يشبه السابق. ومع الوقت، يصبح الجمهور نفسه أكثر قابلية للتوقّع، لأن ما يُقدَّم له لا يسمح له بالخروج عن المسار.

من يخاطب من؟
في الماضي، كان السؤال: كيف أخاطب الجمهور؟
اليوم أصبح: كيف تراني الخوارزمية أمام الجمهور؟
هذا التحوّل يغيّر موقع المتحدث. لم يعد يتوجّه مباشرة إلى الناس، بل إلى نظام وسيط يقرّر من سيرى، ومتى، وكيف. ومع كل خطوة، تتراجع العلاقة المباشرة، ويحلّ محلها تفاوض دائم مع المنصة.
ما الذي يتبقّى من الإحساس الإنساني؟
يتبقّى ذلك الجزء غير القابل للقياس: القدرة على أن تقول شيئًا تعلم أنه لن يكون شائعًا، لكنه ضروري. القدرة على تحمّل الصمت. القدرة على مخاطبة جمهور متخيَّل، لا جمهور محسوب. هذا الإحساس لا يمكن برمجته، لأنه لا يبحث عن الاستجابة الفورية، بل عن الأثر البعيد.
هل الخوارزميات تفهم الجمهور أكثر من الإنسان؟
تفهم سلوكه الظاهر، لا دوافعه العميقة ولا تناقضاته الداخلية.
هل يمكن الجمع بين الإحساس الإنساني والتحليل الخوارزمي؟
نعم، إذا بقي التحليل أداة لا مرجعًا نهائيًا، وإذا لم يُلغِ الحدس.
هل يؤدي هذا التحوّل إلى تسطيح الخطاب؟
غالبًا نعم، لأن ما لا يُكافَأ خوارزميًا يتراجع حضوره.
ما الخطر الأكبر في استبدال الإحساس بالجمهور؟
أن يتحوّل الجمهور من شريك في المعنى إلى رقم في لوحة تحكّم.
في النهاية، الخوارزميات قد تعرف متى نضغط، ومتى نتوقف، ومتى نغادر. لكنها لا تعرف لماذا صمتنا، ولا ما الذي كان يمكن أن يغيّر رأينا لو خوطبنا بوصفنا بشرًا لا بيانات. وربما في هذا الفراغ، بين ما يُقاس وما يُحسّ، لا يزال هناك متسع صغير للإنسان.
اقرأ أيضًا: رواية بلا تجربة.. كيف تنتج النماذج القصص؟








