AI بالعربي – متابعات
لم تعد القصة تُولد بالضرورة من حياة عايشها كاتب، ولا من ذاكرة مثقلة بالخسارات والانتصارات، ولا من تجربة شخصية تُقاوم النسيان عبر السرد. في زمن النماذج اللغوية، بات من الممكن أن تظهر رواية كاملة إلى الوجود دون أن يمرّ صاحبها بأيّ مما مرّ به أبطالها. قصص تُكتب بلا طفولة، وبلا حبّ، وبلا هزيمة، وبلا انتظار طويل أمام نافذة. قصص تنتجها أنظمة ذكية لا تتذكّر لأنها لم تعش، ولا تتألّم لأنها لا تشعر، ومع ذلك تُقنع القارئ أحيانًا بأنها “تفهم” الإنسان.

السؤال لم يعد: هل تستطيع النماذج أن تكتب قصة؟
بل: ما الذي تكتبه فعلًا عندما تكتب قصة؟
في جوهرها، لا تعرف النماذج القصص كما نعرفها نحن. هي لا تبدأ من حدث عاشته، بل من احتمال إحصائي. حين تكتب عن الفقد، فهي لا تستدعي لحظة وداع، بل تستدعي آلاف الجمل التي كُتبت عن الفقد من قبل. وحين تصف الحب، فهي لا تتذكّر ارتباك اللمسة الأولى، بل تُعيد تركيب اللغة التي استُخدمت لوصف ذلك الارتباك عبر تاريخ طويل من النصوص. القصة هنا ليست تذكّرًا، بل محاكاة عالية الدقة.
من التجربة إلى النمط.. كيف تفهم الآلة السرد؟
الإنسان يروي لأنه يريد أن يفهم ما حدث له، أو لأنه يريد أن يمنح التجربة معنى. أما النموذج، فيروي لأنه تعلّم أن هذا هو التسلسل المنطقي للجمل. هو لا يسأل: لماذا حدث هذا؟ بل: ما الجملة التي تأتي عادة بعد هذه الجملة؟ ومن هذا الفرق البسيط، تتشكّل فجوة عميقة بين السرد الإنساني والسرد الآلي.
تتعلّم النماذج القصص عبر تحليل ملايين الروايات، والقصص القصيرة، والسيناريوهات. تستخلص منها بنى متكررة: بداية تمهيدية، تصاعد درامي، ذروة، ثم نهاية. تتعلّم كيف يُقدَّم البطل، وكيف يُصاغ الصراع، وكيف تُزرع الإشارات المبكرة. لكنها لا تعرف لماذا اختار الكاتب تلك النهاية بالذات، ولا ماذا خسر أثناء كتابتها.
يقول أحد منظّري السرد الرقمي: “النموذج يعرف شكل القصة، لكنه لا يعرف ثمنها.” وهذه العبارة تختصر المسألة كلها.
الشخصيات بلا ذاكرة داخلية
حين يكتب الإنسان شخصية روائية، فإنه يضع فيها شيئًا من نفسه، حتى لو أنكر ذلك. خوفه، رغبته، تناقضه، تردده. أما الشخصية التي تنتجها النماذج، فهي مبنية من سمات لغوية وسلوكية متوقعة. قد تبدو متماسكة، وقد تتصرّف “بمنطق”، لكنها لا تحمل ذلك العمق الغامض الذي يولد من التجربة.
الشخصية الآلية تعرف ماذا تفعل، لكنها لا تعرف لماذا تؤلمنا أفعالها. هي نتيجة معادلة سردية، لا نتيجة صراع داخلي حقيقي. ولهذا قد يقرأ القارئ القصة بإعجاب تقني، لكنه نادرًا ما يخرج منها مثقَلًا شعوريًا.

الإقناع دون معايشة.. لماذا تنجح بعض القصص الآلية؟
ورغم ذلك، لا يمكن إنكار أن بعض النصوص المولّدة تبدو مقنعة، بل ومؤثرة أحيانًا. السبب لا يعود إلى أن الآلة “فهمت” التجربة، بل لأنها أتقنت لغة التعبير عنها. هي تعرف كيف تُصاغ الجملة المؤثرة، ومتى يُستخدم الصمت، وكيف يُبنى المشهد. إنها تستعير الأدوات، لا المصدر.
القارئ، بدوره، يتفاعل مع اللغة، لا مع نية الكاتب. فإذا كانت اللغة متقنة، قد يحدث الأثر. لكن هذا الأثر غالبًا ما يكون سطحيًا، سريع التلاشي. يشبه مشاهدة مشهد مؤثر دون أن نعرف لماذا تأثرنا، أو أن نتذكّره طويلًا بعد ذلك.
غياب المخاطرة.. القصة الآمنة دائمًا
من خصائص السرد الإنساني أنه محفوف بالمخاطرة. الكاتب قد يفشل، قد يبالغ، قد يجرح، وقد يُساء فهمه. هذه المخاطرة هي ما يمنح النص حدّته. أما النماذج، فتميل إلى الأمان. تكتب ما هو مقبول، ما هو مفهوم، ما هو “صحيح” سرديًا. نادرًا ما تغامر بنهاية صادمة حقًا، أو بصوت نشاز، أو بفراغ مربك.
ذلك لأن النموذج، في جوهره، مصمم لتقليل الخطأ، لا لتعظيم الصدمة. والقصة العظيمة، في كثير من الأحيان، هي تلك التي تُخطئ عمدًا، أو تخرج عن القاعدة، أو تكسر توقّعات القارئ.

هل القصة بلا تجربة ناقصة؟
هذا السؤال يفتح نقاشًا فلسفيًا أوسع. هل يجب أن يعيش الكاتب ما يكتب عنه؟ تاريخ الأدب يقول لا بالضرورة. لكن الفرق أن الكاتب، حتى حين يكتب عن تجربة لم يعشها، فإنه يفعل ذلك من داخل جسده، وخياله، ووعيه بالزمن والموت. النموذج لا يملك هذا الإطار الوجودي. هو خارج الزمن، وخارج الخسارة، وخارج الانتظار.
لذلك، قد تنتج النماذج قصصًا “تشبه” القصص، لكنها تفتقد ذلك التوتر الخفي بين الحياة واللغة. تفتقد الإحساس بأن شيئًا ما كان على المحك أثناء الكتابة.
هل تهدد النماذج مستقبل الرواية؟
ربما تهدد الرواية السهلة، المتوقعة، المعتمدة على الصيغ الجاهزة. أما الرواية التي تُكتب من حافة التجربة، فما زالت عصية على الاستنساخ.
هل يمكن للآلة أن تكتسب تجربة؟
تقنيًا، يمكن محاكاة آثار التجربة، لا التجربة نفسها. وهذا فرق جوهري.
هل سيقبل القارئ قصة بلا مؤلف؟
قد يقبلها كمنتج، أو كترفيه، لكنه قد يظل يبحث عن ذلك الصوت الذي يعرف أنه كُتب من حياة ما.
بين المحاكاة والحياة
في النهاية، تكتب النماذج القصص لأنها تعلّمت كيف تُكتب القصص، لا لأنها تحتاج إلى قول شيء. وهذا ما يضعها في موقع مختلف جذريًا عن الكاتب الإنسان. القصة، في أصلها، ليست ترتيب أحداث فقط، بل محاولة لفهم العالم، أو لمقاومة الصمت، أو لترك أثر قبل الزوال.
قد تملأ النماذج رفوفًا كاملة من السرد المتقن، لكنها تظل تكتب من الخارج إلى الداخل.
اقرأ أيضًا: الذكاء الاصطناعي لا ينسى الإهانات








