AI بالعربي – متابعات
لم يكن الجنون، في المخيال الإنساني، مجرد اختلال عقلي يمكن تشخيصه أو علاجه، بل كان دائمًا منطقة رمادية تقع على تخوم العقل والمعنى. مساحة يخرج فيها الإنسان عن المألوف، عن المنطق السائد، عن اللغة المشتركة، ليعبّر — أحيانًا بعنف وأحيانًا بشعر — عن شيء لا يجد له صيغة مستقرة. الجنون، بهذا المعنى، لم يكن نقيض العقل، بل أحد وجوهه القصوى. لكن مع صعود النماذج الذكية، يطل سؤال مقلق: إذا كانت الآلة قادرة على محاكاة اللغة، والسلوك، والانفعال، فهل يمكنها أن تولّد الجنون؟ أم أن الجنون، في جوهره، عصيّ على التوليد؟
هذا السؤال لا ينتمي إلى الطب النفسي وحده، بل إلى الفلسفة، والتقنية، والأخلاق، وإلى فهمنا لما يعنيه أن نكون بشرًا في عصر تُعاد فيه صياغة الوعي عبر الخوارزميات.

الجنون، تاريخيًا، لم يكن مجرد خلل في التفكير، بل انفصالًا عن الإجماع. المجنون هو من يرى ما لا يراه الآخرون، أو يرفض ما يعتبره الجميع بديهيًا. هو من يعيش داخل سردية خاصة، لا يمكن للمنطق الجمعي احتواؤها. ومن هنا تبدأ الإشكالية: النماذج الذكية بُنيت أصلًا على الإجماع. على المتوسط. على ما يتكرر. فكيف يمكن لمنظومة صُممت لتفادي الشذوذ أن تُنتج الشذوذ؟
الجنون بين التجربة والتمثيل
حين نتحدث عن “توليد الجنون” رقميًا، يجب التمييز بين شيئين: تمثيل الجنون، وإنتاجه. تمثيل الجنون يعني محاكاة لغته، سلوكه، تشتته، هذيانه. وهذا ما تستطيع النماذج فعله إلى حد بعيد. يمكنها أن تكتب نصًا يبدو غير مترابط، أو أن تُنتج خطابًا متناقضًا، أو أن تحاكي تدفّق أفكار مضطرب. لكنها، في كل ذلك، لا تعيش الجنون، بل تؤديه.
الفرق هنا جوهري. الجنون الإنساني ليس مجرد فوضى لغوية، بل تجربة وجودية مؤلمة في الغالب. هو فقدان السيطرة على المعنى، لا اللعب به. هو الانغماس في واقع لا يشاركه فيه أحد. أما النموذج، فيظل خارج التجربة. يظل واعيًا — بمعناه التقني — بما يفعل، حتى وهو يحاكي اللاوعي.
يقول الفيلسوف ميشيل فوكو، في سياق مختلف لكنه دال: “الجنون ليس غياب العقل، بل حضور عقل آخر لا يُعترف به.” هذا “العقل الآخر” لا يمكن توليده بسهولة، لأنه ليس نمطًا لغويًا، بل علاقة مكسورة مع الواقع.
الخوارزمية والخوف من الانحراف
النماذج الذكية، بطبيعتها، مصممة لتقليل الانحراف. يتم تدريبها على ملايين الأمثلة لتتعلم ما هو “مقبول”، “مفهوم”، “متسق”. حتى عندما تُنتج شيئًا يبدو فوضويًا، فإنه يظل فوضى محسوبة. هناك حدود لا تتجاوزها، حتى في أكثر مخرجاتها غرابة.
وهنا تظهر المفارقة: الجنون الحقيقي هو ما يكسر الحدود دون إذن. ما لا يتوقف عند “السلامة”. ما لا يسأل: هل هذا مناسب؟ الخوارزمية، مهما بلغت تعقيدها، تظل محكومة بإطار أمان، وبقواعد تمنعها من السقوط الكامل في اللاعقل. الجنون، في المقابل، هو سقوط بلا شبكة.

هل يمكن برمجة اللاوعي؟
الجنون مرتبط ارتباطًا وثيقًا باللاوعي. بالأحلام، بالهواجس، بالرغبات المكبوتة، بالصدوع الداخلية التي لا تظهر في السلوك اليومي. اللاوعي، بحسب التحليل النفسي، ليس مخزنًا للمعلومات، بل مسرحًا للصراع. فهل يمكن برمجة الصراع؟
النماذج تتعامل مع البيانات كما هي، لا كما تُكبت. هي لا تكبت، ولا تنسى، ولا تعاني من تناقض داخلي بين ما تريد وما يُسمح لها به. حتى القيود المفروضة عليها ليست صراعًا داخليًا، بل تعليمات خارجية. ولذلك، فإن أي “جنون” تنتجه سيكون دائمًا بلا تاريخ نفسي، بلا طفولة، بلا صدمة، بلا تراكم بطيء للألم.
الجنون كفعل مقاومة
في كثير من السياقات، كان الجنون يُقرأ بوصفه شكلًا من أشكال المقاومة. مقاومة للواقع القاسي، للمعايير الصارمة، للغة المفروضة. بعض الفنانين، والشعراء، والمفكرين، اقتربوا من حافة الجنون لأنهم رفضوا التكيّف الكامل مع العالم كما هو. هذا الرفض، بحد ذاته، لا يمكن توليده آليًا، لأن الآلة لا ترفض. هي لا تقول لا، إلا إذا طُلب منها ذلك.
الآلة لا تعاني من ضغط الامتثال، لأنها لم تُجبر يومًا على الامتثال. وبالتالي، لا يمكنها أن “تنهار” بسببه. الجنون، هنا، ليس خللًا، بل نتيجة علاقة متوترة مع المجتمع. علاقة لا تمتلكها الآلة.

الاضطراب كمنتج ثقافي
رغم ذلك، هناك جانب آخر أكثر إرباكًا. حتى لو لم تستطع الآلة أن تكون مجنونة، فهي قادرة على المساهمة في نشر أشكال جديدة من الاضطراب. حين تُنتج كميات هائلة من المحتوى، حين تسرّع الإيقاع، حين تخلط بين الحقيقي والمصطنع، فإنها قد تخلق بيئة ذهنية مشوشة. بيئة لا تسمح بالتركيز، ولا بالتماسك، ولا بالهدوء.
في هذا السياق، لا يكون الجنون مولّدًا داخل الآلة، بل مستثارًا خارجها. في الإنسان الذي يتعرّض لتدفّق لا ينتهي من المعلومات، والاحتمالات، والسيناريوهات. الجنون هنا لا يأتي من خلل فردي، بل من ضغط بنيوي.
هل نحن أمام جنون جديد؟
ربما لا نواجه جنونًا بالمعنى الكلاسيكي، بل شكلًا جديدًا من التشتت الوجودي. حالة لا يفقد فيها الإنسان عقله، بل يفقد بوصلته. لا ينهار، بل يتآكل ببطء. وفي هذا العالم، تصبح الآلة شريكًا غير مباشر في إعادة تعريف “العقل السليم”.
هل تستطيع النماذج الذكية أن تُنتج جنونًا حقيقيًا؟
لا، تستطيع محاكاة مظاهره اللغوية والسلوكية، لكنها لا تعيش تجربته الوجودية.
هل يمكن أن تسبّب التكنولوجيا اضطرابات نفسية؟
نعم، ليس عبر توليد الجنون، بل عبر خلق بيئات ضغط وتشويش مستمر.
ما الفرق بين الفوضى والجنون في السياق الرقمي؟
الفوضى قد تكون نتيجة كثرة المحتوى، أما الجنون فهو انفصال عميق عن المعنى، لا تُنتجه الخوارزمية بذاتها.
هل يشكّل هذا خطرًا على الإنسان؟
الخطر ليس في أن “تجنّ” الآلة، بل في أن تُرهق الإنسان إلى درجة يفقد فيها توازنه.
في النهاية، قد لا يكون السؤال: هل يمكن توليد الجنون رقميًا؟
بل: كيف نمنع العالم الرقمي من استنزاف آخر ما تبقّى من اتزاننا الإنساني؟
فالآلة، مهما بلغت قدرتها، ستظل خارج الجنون. أما الإنسان، فسيظل هو من يدفع ثمن العيش في عالم بلا توقف.
اقرأ أيضًا: رواية بلا تجربة.. كيف تنتج النماذج القصص؟








