AI بالعربي – متابعات
لم يحدث التحوّل دفعة واحدة، ولم يأتِ على هيئة صدمة واضحة. بل تسرّب بهدوء، مثل فكرة تتسلل إلى الوعي دون أن تُستأذن. في البداية، كانت أدوات تساعد على التحرير، ثم برامج تقترح، ثم نماذج تُنتج، إلى أن وجد الإنسان نفسه أمام سؤال لم يكن مطروحًا بهذا الشكل من قبل: إذا أصبحت الآلة قادرة على الإبداع، فماذا يتبقّى من الإنسان؟
الإبداع، لقرون طويلة، كان آخر المعاقل التي احتمى بها الإنسان ليؤكد فرادته. قد تُهزم قوته الجسدية، وقد تُنافس قدراته الحسابية، لكن الخيال، والحدس، والقدرة على ابتكار ما لم يكن موجودًا، كانت تُعدّ سمات إنسانية خالصة. اليوم، ومع أتمتة الإبداع، لم يعد هذا الافتراض مستقرًا. النصوص تُكتب، الصور تُرسم، الموسيقى تُلحّن، وحتى الأساليب الشخصية تُحاكى، دون أن يمرّ ذلك عبر تجربة بشرية مباشرة.

ما يحدث ليس اختفاءً للإبداع الإنساني بقدر ما هو إعادة تعريف له. فالآلة لا تُبدع لأنها تشعر بالحاجة إلى التعبير، بل لأنها تعلّمت أن الإبداع نمط قابل للتوليد. هي لا تسأل: لماذا أكتب؟ بل: كيف كُتبت مثل هذه الأشياء من قبل؟ ومن هذا الفارق الدقيق، يبدأ التوتر.
الإبداع حين يتحوّل إلى عملية
أتمتة الإبداع تعني، في جوهرها، تحويل ما كان يُنظر إليه كفعل غامض إلى سلسلة خطوات قابلة للتكرار. النموذج اللغوي لا “يلهم”، بل يحسب. نموذج الصورة لا “يتخيّل”، بل يركّب. الموسيقى المولّدة لا تنبع من صمت داخلي، بل من تحليل ملايين الألحان السابقة. الإبداع هنا يصبح نتيجة، لا رحلة.
هذا التحوّل يطرح إشكالية عميقة: إذا كان الإبداع عملية، فمن الطبيعي أن تُؤتمت. لكن إذا كان الإبداع تجربة، فالأتمتة لا تمسّ جوهره، بل شكله فقط. المشكلة أن السوق، والمنصات، والمؤسسات، تتعامل مع الإبداع بوصفه منتجًا، لا تجربة. وما يمكن إنتاجه بكفاءة أعلى، سيتم تفضيله.
يقول المفكر الكندي مارشال ماكلوهان في صياغة رمزية معاصرة: “حين تتحول الوسيلة إلى عقل، يُعاد تعريف الإنسان بوصفه مستخدمًا، لا فاعلًا.” وهذا ما يحدث اليوم للإبداع.
من الموهبة إلى القابلية للاستبدال
في بيئة إبداعية مؤتمتة، لم تعد الموهبة وحدها كافية. الكاتب، والمصمّم، والموسيقي، باتوا يقارنون أنفسهم بنماذج لا تتعب، ولا تتأخر، ولا تطلب مقابلًا. هذا لا يعني أن الإنسان فقد قيمته، لكنه فقد احتكاره.
ومع فقدان الاحتكار، يظهر سؤال الهوية: إذا كان بإمكان نموذج أن يكتب بأسلوبي، فما الذي يجعلني أنا ضروريًا؟ الجواب لا يكمن في جودة الناتج فقط، بل في سياقه. الإنسان يبدع من موقع، من تاريخ، من موقف أخلاقي، من تجربة عيش. الآلة تنتج دون موقع، ودون مخاطرة، ودون ثمن.
لكن هذا الفرق لا يظهر دائمًا للقارئ أو المستهلك، خاصة في عالم سريع، يستهلك الإبداع كما يستهلك أي محتوى آخر.

الإبداع بلا ذات.. ماذا نخسر؟
حين يُفصل الإبداع عن الذات، نخسر شيئًا لا يمكن قياسه بسهولة. نخسر ذلك الشعور بأن النص كُتب لأن أحدهم لم يحتمل الصمت. نخسر الأثر البطيء الذي يتركه العمل لأنه مرتبط بحياة حقيقية. نخسر الأخطاء الجميلة، والتجارب غير المكتملة، والارتباك الذي يصنع أحيانًا أعظم الأعمال.
النموذج لا يتردّد، لا يشكّ، لا يعاني من فراغ الصفحة. وهذه كلها عناصر كانت جزءًا من الإبداع الإنساني، لا عيوبًا فيه. حين تختفي، يصبح الناتج أنظف، لكن أقل خطورة، وأقل قدرة على زعزعة القارئ.
ما الذي يتبقّى للإنسان؟
يتبقّى ما لا يمكن أتمتته بسهولة: المعنى، لا الشكل. السؤال، لا الإجابة. الموقف، لا الصيغة. يتبقّى للإنسان أن يختار لماذا يكتب، لا كيف. أن يقرّر متى يصمت، ومتى يخالف، ومتى يكتب ضد التيار، لا معه.
الإبداع الإنساني، في هذا السياق، قد يتحوّل من إنتاج وفير إلى إنتاج نادر. أقل عددًا، لكن أكثر كثافة. أقل سرعة، لكن أعمق أثرًا. ربما لم يعد الإنسان هو من يملأ المساحات، بل من يخلق الفراغات التي لا تستطيع الآلة ملأها.

هل نحن أمام نهاية الإبداع الإنساني؟
الأقرب أننا أمام نهاية وهم قديم: وهم أن الإبداع حكر حصري على الإنسان. ما ينتهي ليس الإبداع، بل تعريفه الساذج. في المقابل، يظهر تعريف أكثر صرامة، يربط الإبداع بالمسؤولية، وبالاختيار، وبالقدرة على قول لا.
الآلة لا تعترض، لا ترفض، لا تتمرّد. هي تُنتج ضمن ما طُلب منها. الإنسان وحده يملك إمكانية العصيان الجمالي، والكتابة ضد التوقع، وضد السوق، وضد الخوارزمية نفسها.
هل أتمتة الإبداع تعني الاستغناء عن المبدعين؟
لا تعني الاستغناء الكامل، لكنها تعني تقليص المساحات السطحية، وتضييق الخناق على الإبداع القائم على الصيغة فقط.
هل يمكن التمييز بين الإبداع الإنساني والآلي؟
في الشكل قد يصبح التمييز صعبًا، لكن في العمق، يظهر الفرق في الموقف، وفي الجرأة، وفي القدرة على إنتاج معنى لا يُطلب مسبقًا.
ما دور المبدع في هذا العصر؟
الدور يتحوّل من الإنتاج المستمر إلى الاختيار الواعي: متى يكتب، ولماذا، ولمن.
هل يمكن للإنسان أن يتعايش مع أتمتة الإبداع؟
نعم، إذا أعاد تعريف قيمته بعيدًا عن السرعة والكثرة، واقترب أكثر من المعنى والتجربة.
في النهاية، ما يتبقّى من الإنسان بعد أتمتة الإبداع ليس المهارة، ولا الأسلوب، ولا حتى الخيال بمعناه التقني، بل تلك القدرة الهشة والعنيدة على أن يقول شيئًا لأنه لا يستطيع ألا يقوله. وهذه، حتى الآن، لا تزال خارج نطاق الخوارزمية.
اقرأ أيضًا: رواية بلا تجربة.. كيف تنتج النماذج القصص؟








