AI بالعربي – متابعات
لم تعد الرغبة فعلًا داخليًا خالصًا، ولا اندفاعًا غامضًا يولد من تفاعل الإنسان مع ذاته والعالم من حوله. في العصر الرقمي، تحوّلت الرغبة إلى مادة قابلة للتصميم، والقياس، والتعديل، بل وإعادة البيع. الذكاء الاصطناعي، الذي بدأ كمحرّك لتحليل السلوك، أصبح اليوم مهندسًا خفيًا للشهوات، يرسم مسارات التفضيل ويعيد تشكيل ما نعتقد أنه “اختيارنا الحر”. السؤال لم يعد: ماذا نريد؟ بل: كيف صُمّم ما نريده؟

في قلب هذا التحول تقف النماذج التنبؤية، التي لا تكتفي بقراءة ما تحبه، بل تتنبأ بما قد تشتهيه لاحقًا. كل تفاعل، مهما بدا عابرًا، يتحول إلى إشارة. مدة التوقف، نبرة البحث، التردّد قبل النقر، كلها مواد خام تُغذّي نموذجًا يسعى لفهمك بطريقة قد تفوق فهمك لنفسك. ومع تراكم البيانات، لا تعود الرغبة حدثًا مفاجئًا، بل نتيجة منطقية لسلسلة حسابات دقيقة.
الذكاء الاصطناعي لا “يخلق” الشهوة من فراغ، لكنه يوجّهها، يضخّمها، ويضعها في سياق يبدو طبيعيًا. ما يظهر على شاشتك لا يأتي صدفة؛ إنه نتاج قرار محسوب يوازن بين ما يجذبك الآن وما يمكن أن يبقيك منخرطًا لاحقًا. هكذا تتحول الرغبة إلى مسار مُدار، لا إلى ومضة عفوية.
من الاكتشاف إلى الهندسة: كيف تغيّر معنى الاختيار
في السابق، كان الاكتشاف جزءًا أساسيًا من التجربة الإنسانية. تصادف فكرة، تنجذب إليها، ثم تقرر. اليوم، تقلّصت مساحة الصدفة. الخوارزمية تسبقك بخطوة، تقترح قبل أن تسأل، وتعرض قبل أن تشتهي. ومع الوقت، يعتاد العقل هذا النمط، فيتراجع فضوله الذاتي، ويحلّ محله انتظار مُريح لما سيأتي به النظام.
يصف أحد الباحثين هذا التحول بقوله: “نحن لا نختار من فراغ، بل من قائمة مُعدّة سلفًا. وما لا يوجد في القائمة، يصعب أن نرغب فيه.” هذه الجملة تكشف جوهر المشكلة: الرغبة لم تُلغَ، لكنها حُصرت ضمن إطار ضيق من الاحتمالات.

اقتصاد الانتباه.. حين تصبح الشهوة موردًا
الرغبة اليوم ليست شأنًا نفسيًا فقط، بل مورد اقتصادي. المنصات تتنافس على جذب انتباهك، لأن الانتباه هو العملة الأساسية. وكلما طال بقاؤك، زادت قيمة بياناتك، وارتفعت قدرتهم على توقّعك. في هذا السياق، تُصمَّم الرغبات لتكون قابلة للاستدامة: لا إشباع كامل، ولا حرمان تام، بل توازن دقيق يبقيك في حالة “توق دائم”.
هذا التصميم لا يعتمد على الإغراء الصريح، بل على التدرّج. محتوى يشبه ما تحب، ثم يضيف درجة صغيرة من الإثارة أو الاختلاف. مع الوقت، تتبدّل حدودك دون أن تشعر. ما كان هامشيًا يصبح مألوفًا، وما كان مألوفًا يصبح ضروريًا. هكذا تُعاد برمجة الذوق خطوة بخطوة.
الشهوة المؤتمتة.. بين التنبؤ والتوجيه
الفارق بين التنبؤ والتوجيه دقيق، لكنه حاسم. حين تتنبأ الخوارزمية بما قد تريده، فهي تقرأك. لكن حين تعرضه بطريقة تجعل البديل أقل جاذبية، فهي توجّهك. ومع تكرار هذا السلوك، يصبح التوجيه هو القاعدة، والتنبؤ مجرد مرحلة تمهيدية.
يطرح بعض المفكرين سؤالًا مقلقًا: هل ما نرغبه اليوم هو نتيجة رغبة سابقة، أم نتيجة اقتراح مُتقن؟ الإجابة ليست بسيطة، لأن الاثنين تداخلا إلى حد يصعب فصله. الرغبة أصبحت حوارًا غير متكافئ بين الداخل الإنساني ونظام خارجي يملك معرفة أوسع بأنماط السلوك.

الهوية تحت الضغط: حين تُقاس الرغبة بالبيانات
الرغبة جزء من الهوية. وحين تُقاس بالبيانات، تُختزل إلى أنماط. هذا الاختزال قد يكون مفيدًا للتحليل، لكنه خطر على العمق الإنساني. فالإنسان ليس مجموع رغباته الحالية فقط، بل أيضًا ما يقاومه، وما يتجاوزه، وما يختاره ضد ميوله أحيانًا. الخوارزمية، بطبيعتها، لا ترى هذا الصراع الداخلي. هي ترى ما يظهر، لا ما يُكبت.
ومع الوقت، قد يبدأ المستخدم في التماهي مع الصورة التي تعكسها له المنصة. “إذا كانت هذه هي اقتراحاتي، فربما هذا ما أنا عليه.” هكذا تتسلل الهوية من الداخل إلى الخارج، من تجربة ذاتية إلى تعريف رقمي.
هل يمكن مقاومة هذا التصميم؟
المقاومة لا تعني الانسحاب الكامل، بل الوعي. أن تدرك أن ما يُعرض عليك ليس محايدًا، وأن تترك مساحة للاختيار خارج التوصية.
هل الذكاء الاصطناعي مسؤول أخلاقيًا؟
الآلة بحد ذاتها لا تتحمل مسؤولية، لكن من يصممها ويحدد أهدافها يتحمل عبئًا أخلاقيًا متزايدًا، خاصة حين يتعلق الأمر بتشكيل الرغبات.
هل يمكن تصميم رغبة “أفضل”؟
هذا سؤال فلسفي بامتياز. من يحدد ما هو الأفضل؟ المستخدم، أم السوق، أم النظام؟
بين الحرية والتشكيل
في النهاية، لا يعيش الإنسان خارج التأثير. الرغبة كانت دائمًا نتاج بيئة وثقافة وتجربة. الجديد اليوم هو دقة التأثير وسرعته وقدرته على التخصيص. الذكاء الاصطناعي لم يسلبنا الرغبة، لكنه أعاد تعريف شروطها. جعلها أقرب إلى منتج مُهندَس، وأبعد عن كونها اندفاعًا حرًا.
يبقى التحدي الحقيقي هو الحفاظ على مساحة داخلية لا تصلها الخوارزمية بسهولة، مساحة للتأمل، وللاختيار غير المتوقع، وللرغبة التي لا يمكن التنبؤ بها. في عالم تُصمَّم فيه الشهوات، قد تكون أكثر أشكال الحرية ندرة… أن ترغب في شيء لم يُقترح عليك.
اقرأ أيضًا: من يربّي من؟.. الخوارزمية أم المستخدم








