AI بالعربي – متابعات
لم يعد السؤال عن علاقة الإنسان بالتقنية سؤال استخدامٍ أو منفعة، بل تحوّل إلى سؤال تربيةٍ وتأثير متبادل. في السابق، كان الإنسان يعلّم الآلة ما تفعل، يحدّد لها القواعد، ويضع لها الغايات. أمّا اليوم، وفي ظل صعود الخوارزميات التعلّمية والنماذج التنبؤية، فقد انقلب المشهد بهدوء: الخوارزمية لا تتعلّم فقط مما نفعله، بل تُعيد تشكيل ما نفعله لاحقًا. إنها لا تكتفي بأن تتلقى السلوك، بل تعيده إلينا مُعدّلًا، مُحسّنًا، وموجّهًا. وهنا يبرز السؤال المركزي: من يربّي من؟ المستخدم الذي يغذّي الخوارزمية بالبيانات، أم الخوارزمية التي تُعيد تربية المستخدم عبر التوصيات والاختيارات المسبقة؟

في البدايات، كانت الخوارزمية أقرب إلى طفلٍ يتعلّم. كل نقرة، كل مشاهدة، كل إعجاب، كانت درسًا جديدًا. المستخدم هو المعلّم غير المرئي، يقدّم مادته السلوكية بلا وعي، فتتعلّم الآلة أنماط التفضيل، أوقات النشاط، اللغة المفضّلة، وحتى نبرة المزاج. لكن مع الوقت، لم تعد هذه الدروس أحادية الاتجاه. ما إن تتقن الخوارزمية القراءة، حتى تبدأ في الكتابة. وما إن تفهم الذوق، حتى تبدأ في تشكيله.
يقول الباحث في علم البيانات “كيفن روز”:
“الخوارزميات لا تكتفي بتعلّم ما تحب، بل تختبر قدرتها على جعلك تحب ما تعرضه”.
هذه الجملة تختصر التحوّل من التعلّم إلى التربية.
التعلّم الآلي كمنهج تربية خفي
التعلّم الآلي، في جوهره، ليس محايدًا. هو يسعى دائمًا إلى تقليل الخطأ، وزيادة التفاعل، وتحقيق الهدف الذي صُمّم من أجله. وعندما يكون الهدف هو إبقاؤك أطول وقت ممكن، أو دفعك لاتخاذ قرار معيّن، فإن كل توصية تصبح درسًا سلوكيًا. تتعلّم أنت، دون أن تدري، ما الذي يجب أن تشاهده، ومتى، وكيف، وبأي وتيرة.
ومع تكرار هذا النمط، يبدأ المستخدم في التكيّف. لا يعود يبحث، بل ينتظر. لا يختار، بل ينتقي من المعروض. وهنا تنتقل الخوارزمية من موقع المتعلّم إلى موقع المربّي، تُكافئ سلوكًا وتُهمل آخر، تُبرز خيارًا وتُخفي بدائل، فتُعيد رسم خريطة الاهتمام والفضول.
الطفل الرقمي الجديد: مستخدم مُعاد التشكيل
في علم النفس السلوكي، تُعدّ المكافأة المتقطعة من أقوى أدوات التعلّم. والخوارزميات الحديثة تتقن هذا الفن. إشعار غير متوقّع، محتوى “قد يعجبك”، توصية تبدو شخصية جدًا. كل ذلك يعمل كحافز صغير، يعيد ربط المستخدم بالمنصة. ومع الزمن، يتشكّل سلوك جديد: ردّ فعل تلقائي، استجابة سريعة، اعتماد غير واعٍ.
تقول الباحثة “شوشانا زوبوف” إن أخطر ما في الاقتصاد الرقمي ليس جمع البيانات، بل “تعديل السلوك على نطاق واسع”. فالتربية هنا لا تتم عبر أوامر مباشرة، بل عبر بيئة مُصمّمة بعناية، تجعل بعض السلوكيات أسهل، وأخرى أصعب، وثالثة غير مرئية تمامًا.

منهج القيم.. هل تنقل الخوارزمية أخلاقها؟
التربية ليست سلوكًا فقط، بل قيم. وعندما تُحدّد الخوارزمية ما يستحق الظهور، فهي تُحدّد ضمنيًا ما يستحق الاهتمام. ما يُكافأ بالانتشار، يُنظر إليه كقيمة. وما يُدفن في قاع الترتيب، يتلاشى من الوعي العام. وهكذا، تنتقل القيم من كونها نتاج نقاش اجتماعي إلى كونها نتيجة خوارزمية.
قد لا تكون للخوارزمية “أخلاق” بالمعنى الإنساني، لكنها تحمل بصمة من صمّمها، ومن موّلها، ومن حدّد أهدافها. وإذا كانت هذه الأهداف تجارية بحتة، فإن التربية الناتجة ستكون مائلة نحو الاستهلاك، السرعة، والسطحية. أما العمق، والبطء، والتأمل، فهي سلوكيات لا تخدم مؤشرات الأداء، فتتراجع.
المستخدم كمربٍ… لكن بلا سلطة
قد يُقال إن المستخدم ما زال يربّي الخوارزمية ببياناته. وهذا صحيح جزئيًا. لكنه يربّيها دون أن يرى المنهج، ودون أن يعرف النتائج، ودون أن يملك حق الاعتراض. إنه يقدّم مادته الخام، بينما تُصاغ القواعد في مكان آخر. وهنا يكمن الخلل في ميزان القوة.
يقول الفيلسوف التقني “برنارد ستيغلر”:
“التربية التي لا يشارك المتربّي في تصميمها، تتحول إلى شكل من أشكال السيطرة الناعمة”.
وهذا ما يحدث حين تُربّى الخوارزميات على بياناتنا، ثم تعود لتربيتنا وفق أهداف لم نشارك في تحديدها.

دوائر التأثير المغلقة.. عندما يضيق الأفق
أخطر ما في العلاقة التربوية الخوارزمية هو الدائرة المغلقة. ما تشاهده اليوم يؤثر على ما سيُعرض عليك غدًا. وما يُعرض عليك غدًا يحدد ما ستشاهده بعده. ومع الوقت، يضيق الأفق، وتتقلص المفاجأة، ويبهت الاختلاف. المستخدم لا يُمنع من رؤية البدائل، لكنه لا يُشجّع عليها.
وهنا تظهر آثار بعيدة المدى: استقطاب فكري، تكرار ثقافي، وتراجع القدرة على تقبّل المختلف. ليست لأن المستخدم يرفضه، بل لأنه نادرًا ما يراه.
هل يمكن تربية خوارزمية أخلاقية؟
يجيب بعض الباحثين: نعم، إذا صُمّمت على الشفافية، والتنوّع، وقابلية التفسير، وليس فقط على التفاعل.
هل يستطيع المستخدم استعادة دوره؟
ربما، عبر الوعي الرقمي، والمطالبة بحقوق البيانات، واستخدام أدوات تكسر الفقاعة الخوارزمية.
هل العلاقة حتمية؟
ليست حتمية، لكنها تميل إلى ذلك ما لم يُعاد ضبط ميزان القوة بين من يملك البيانات ومن يملك القرار.
نحو تربية متبادلة أكثر عدلًا
في النهاية، لا يمكن إنكار أن العلاقة بين المستخدم والخوارزمية علاقة تفاعلية. كل طرف يؤثر في الآخر. لكن السؤال الحاسم ليس من يربّي من فقط، بل: من يضع المنهج؟ ومن يحدد القيم؟ ومن يملك حق المراجعة؟
إذا استمرّت الخوارزميات في تربية المستخدمين دون مساءلة، سنحصل على أجيال مريحة التوجيه، سريعة الاستجابة، محدودة الأفق. أما إذا أُعيد تعريف العلاقة، لتكون شراكة واعية لا وصاية خفية، فقد تتحول الخوارزمية من مربٍ صامت إلى أداة تمكين حقيقية.
وفي زمن تتداخل فيه التربية بالتقنية، قد يكون أعظم درس يحتاجه الإنسان اليوم هو أن يتعلّم كيف يربّي خوارزميته… دون أن يسمح لها بأن تربيه وحدها.
اقرأ أيضًا: عندما تحذفك الخوارزمية من المعادلة








