AI بالعربي – متابعات
لم تعد الكتابة فعل مفاجأة كما كانت، ولا قفزة في المجهول كما اعتاد الكتّاب أن يصفوها. في زمن النماذج التنبؤية، صارت الكلمات تُستدعى قبل أن تُكتب، وتُقترح قبل أن تُفكَّر، ويُتوقَّع مسارها قبل أن تبدأ الجملة الأولى. نحن نكتب اليوم في ظل نظام يعرف إلى حدٍّ كبير ما سنقوله، أو على الأقل ما يشبهه. وهنا يتسلل السؤال القلق: إذا كانت الخوارزمية تتوقع النص قبل ولادته، فهل ما زال هناك “جديد” يمكن أن يُقال؟
منذ أن أصبحت النماذج اللغوية قادرة على تحليل ملايين الكتب والمقالات والخطب والحوارات، لم تعد اللغة فضاءً بريئًا. صارت ساحة احتمالات، ومجالًا إحصائيًا، ونسيجًا من الأنماط القابلة لإعادة التركيب. الكتابة، التي كانت تُولد من تجربة فردية، باتت تُقاس بمدى توافقها مع ما كُتب من قبل. وكلما زاد التوافق، ارتفعت درجة “التوقع”. وكلما انخفض، بدا النص غريبًا، أو غير مفهوم، أو “خارج السياق”.

في هذا المشهد الجديد، لم تعد الخوارزمية مجرد أداة مساعدة، بل صارت مرآة تسبق الكاتب. تقترح عليه مفرداته، وتنبّهه إلى ما هو شائع، وتعيد توجيه أسلوبه نحو ما “ينجح” إحصائيًا. ومع الوقت، يبدأ الكاتب في التكيّف. لا لأن الخوارزمية تفرض عليه شيئًا، بل لأنها تُغريه بالسهولة، بالسرعة، وبالقبول الفوري. وهكذا، تتسلل الكتابة المتوقعة إلى النصوص، لا بوصفها قيدًا، بل بوصفها حلًا عمليًا.
النموذج يعرف الطريق.. فهل يسلكه الكاتب؟
التوقع في جوهره ليس شرًا. فحتى البشر يتوقعون. القارئ يتوقع نهاية، والكاتب يتوقع رد فعل. الجديد اليوم هو أن التوقع أصبح آليًا، مبنيًا على كمٍّ هائل من النصوص السابقة. النموذج لا يقرأ ليُدهش، بل ليحسب. لا يبحث عن الاختلاف، بل عن الأكثر احتمالًا. وحين يُستخدم هذا المنطق في الكتابة، يصبح النص نتيجة ترجيح، لا نتيجة مغامرة.
يقول أحد منظّري الأدب الرقمي: “النموذج لا يعرف الصمت بين الكلمات، ولا يعرف التردد الذي يسبق الفكرة.” وهذا التردد بالذات كان دائمًا موطن الجديد. الفكرة التي لم تُجرَّب، والجملة التي لم تُصَغ من قبل، كانت تولد من فراغ غير محسوب. أما الآن، فالفراغ نفسه أصبح ممتلئًا بالبيانات.

بين الأسلوب والنسخة.. هل يتآكل الصوت الفردي؟
مع انتشار الأدوات التنبؤية، ظهر نمط جديد من الكتابة: كتابة صحيحة، سلسة، مقروءة، لكنها بلا نبرة واضحة. نصوص تبدو جيدة من الخارج، لكنها متشابهة من الداخل. السبب لا يعود إلى ضعف الكتّاب، بل إلى ضغط النموذج. فحين تُقاس جودة النص بمدى قربه من “المتوسط المقبول”، يذوب الصوت الفردي تدريجيًا.
الكاتب الذي يحاول الخروج عن النمط قد يبدو “غامضًا” أو “غير مناسب”، بينما الكاتب الذي يساير التوقع يُكافأ بالانتشار. وهنا يتحول السؤال من: ماذا أريد أن أكتب؟ إلى: ماذا يتوقع النظام أن أكتب؟ ومع تكرار هذا التحول، تصبح الكتابة استجابة، لا مبادرة.

الجديد كخطر.. لماذا تخشاه الخوارزميات؟
النماذج التنبؤية بطبيعتها حذرة. هي لا تحب القفزات غير المبررة، ولا تثق بما لا يشبه ما تعرفه. لذلك، فإن “الجديد” يمثل مخاطرة إحصائية. النص الذي لا يشبه ما سبق يصعب تصنيفه، ويصعب التنبؤ بتفاعله. ولهذا، تميل الخوارزميات إلى تفضيل التكرار الذكي على الابتكار الجذري.
لكن الأدب، والفكر، والفن، لم يتقدّموا يومًا عبر التكرار. كل تحوّل كبير في تاريخ الكتابة كان خروجًا عن المتوقع، وكسرًا لنسق سائد. السؤال الآن: هل تستطيع الكتابة أن تواصل هذا الدور في بيئة تكافئ المتوقع وتعاقب المختلف؟
الكاتب بين الإغراء والمقاومة
لا يمكن إنكار أن الأدوات التنبؤية تمنح الكاتب قوة جديدة: سرعة، اقتراحات، قدرة على تجاوز العثرات. لكنها في الوقت نفسه تختبر إرادته. هل سيستخدمها كدعامة، أم يسمح لها بأن تحدد مسار النص؟ الفرق دقيق، لكنه حاسم. الكاتب الذي يسلّم قراره بالكامل للتوقع، قد يكتب كثيرًا، لكنه نادرًا ما يفاجئ. أما الذي يستخدم الأداة ثم ينحرف عنها عمدًا، فهو من يحافظ على شرارة الجديد.
يقول كاتب معاصر: “أكتب المسودة الأولى مع الخوارزمية، وأكتب النص الحقيقي ضدها.” في هذه العبارة تلخيص لعلاقة ممكنة، لا عدائية ولا استسلامية، بل واعية.
هل انتهى الجديد فعلًا؟
ربما انتهى الجديد السهل، الذي يولد من إعادة ترتيب السائد. أما الجديد العميق، فهو أصعب، لكنه لم يمت.
هل تجعل النماذج كل شيء متشابهًا؟
إذا استُخدمت بلا وعي، نعم. أما إذا وُضعت في موقع الأداة لا المرجع، فيمكن أن تفتح مساحات غير متوقعة.
هل على الكاتب أن يقاوم؟
ليس بالضرورة مقاومة صدامية، بل مقاومة جمالية: اختيار ما لا يُتوقع، والكتابة من مناطق لا تملك الخوارزمية خرائطها.
في ظل التوقع… ماذا يبقى للكتابة؟
في النهاية، قد لا تكون المشكلة في أن الخوارزمية تتوقع، بل في أن الكاتب يكتفي بتحقيق هذا التوقع. الجديد لا يولد من المعرفة وحدها، بل من الجرأة على خيانتها. والكتابة، مهما تغيّرت أدواتها، ستظل فعل توتر بين ما نعرفه وما لا نعرفه بعد.
في عالم يعرف الكثير عن الكلمات قبل أن تُكتب، قد يكون التحدي الحقيقي للكاتب هو أن يجد تلك المساحة الصغيرة التي لا تصلها التنبؤات بسهولة. مساحة الخطأ، والارتباك، والتجربة غير المكتملة. هناك فقط، ربما، ما زال الجديد ممكنًا.
اقرأ أيضًا: الرغبة كمنتج رقمي.. كيف يصمم الذكاء شهواتك؟








