AI بالعربي – متابعات
لم تُصمَّم فحوصات “التصوير المقطعي المحوسب” يومًا للكشف عن هشاشة العظام، بل استُخدمت لسنوات طويلة كفحوص عابرة للصدر أو البطن أو الكلى، تُؤدى لغرض محدد ثم تُحفظ في الأرشيف الطبي وتُغلق صفحتها. لكن دراسة حديثة من جامعة نيويورك أعادت فتح هذه الملفات القديمة، كاشفة أن ما ظننّاه صورًا منسية قد يحمل إنذارات صحية مبكرة لم يكن في مقدور العين البشرية التقاطها.
صور قديمة… وتشخيص جديد
في هذه الدراسة الرائدة، التي أطلقها مركز “لانغون هيلث” بجامعة نيويورك “NYU Langone Health” في نوفمبر الماضي، حلّل الباحثون ما يقارب 538 ألف فحص مقطعي تخص أكثر من 283 ألف مريض. وباستخدام نموذج ذكاء اصطناعي مدرَّب على قراءة الفقرات الصدرية والقطنية، نجح الفريق في رصد مؤشرات مبكرة لهشاشة العظام من فحوص لم تُلتقط أصلًا لهذا الغرض.
تكشف النتائج فكرة صادمة وبسيطة في آن واحد: الفحص الذي أجراه المريض قبل سنوات، دون أي شكوى من العظام، قد يحتوي بالفعل على إشارات أولى للمرض، لكنها بقيت غير مرئية حتى أُعيد تحليلها بعين رقمية.
عندما يتحول الأرشيف الطبي إلى ذاكرة حيّة
لا تقدّم الدراسة تقنية مبتكرة فحسب، بل تقترح تغييرًا جوهريًا في طريقة فهم الصورة الطبية. لم تعد الصورة حدثًا لحظيًا ينتهي بتشخيص سريع، بل أرشيفًا صحيًا قابلًا لإعادة القراءة كلما تطورت أدوات التحليل. وهنا يتفوّق الذكاء الاصطناعي في مجال الرعاية الوقائية، لأنه لا يعيد قراءة الصورة فقط، بل يعيد قراءة الماضي الصحي بأكمله.
العظام تتحدث… والخوارزمية تُصغي
أظهرت النتائج أن عددًا كبيرًا من المرضى الذين شُخّصوا لاحقًا بهشاشة العظام، كانت لديهم بالفعل علامات ضعف واضحة في فحوص سابقة. لم تغب هذه الإشارات بسبب تقصير الأطباء، بل لأن العين البشرية – مهما بلغت خبرتها – لا تستطيع مسح آلاف الطبقات الصورية بدقة متناهية.
هذا الواقع يفتح تساؤلًا أكبر: كم من الأمراض لا تزال مختبئة في صور محفوظة منذ سنوات؟ وكم من المعاناة يمكن تجنّبها لو أُتيح للذكاء الاصطناعي أن يعيد فحص تاريخنا الطبي بهدوء ودقة؟
تصريح يكشف أفق المستقبل الطبي
في حديث خاص، أوضح البروفيسور مايكل ريخت “Michael P. Recht”، رئيس قسم الأشعة في مركز لانغون هيلث، أن ما تحمله هذه التقنية يتجاوز هشاشة العظام نفسها، مشيرًا إلى أن الذكاء الاصطناعي يعيد قراءة التاريخ الصحي للمريض بأكمله. وقال إن كل فحص قديم يمثل فرصة حقيقية للكشف المبكر، إذا أُتيح للنظام الذكي مراجعة الأرشيف دون الحاجة إلى فحوص إضافية أو تكاليف جديدة.
ورأى أن السنوات القادمة قد تشهد نموذجًا صحيًا مختلفًا، يُعاد فيه تحليل أرشيف المريض الطبي دوريًا، ليصبح الماضي أداة إنقاذ للمستقبل.
لماذا تمس هذه الدراسة العالم العربي؟
تكمن أهمية هذا الاكتشاف عربيًا في أن هشاشة العظام تُصيب نسبة مرتفعة من السكان، لا سيما النساء فوق سن الخمسين، وغالبًا لا يجري اكتشاف المرض إلا بعد أول كسر، حين يصبح العلاج أكثر تعقيدًا. إعادة تحليل الفحوص القديمة قد تفتح بابًا للتدخل المبكر، قبل الألم وقبل المضاعفات.
تخيّل نظامًا صحيًا يعيد قراءة فحوص المرضى تلقائيًا، ويبلغهم بإشارات ضعف العظام باكراً، قبل أن يتحول الصمت إلى كسر.
ثورة أوسع في قراءة الصور الطبية
لا تتوقف دلالات هذه الدراسة عند هشاشة العظام. فالباحثون يرون أنها تمهّد لمرحلة جديدة، يمكن فيها تدقيق صور الأشعة السينية، والتصوير بالرنين المغناطيسي، والمقطعي، وحتى السونار، للكشف المبكر عن أمراض القلب والسرطان والاضطرابات العصبية. إنها مقاربة جديدة تحول الصور الطبية إلى “ذاكرة صحية” متجددة لا تفقد قيمتها بمرور الوقت.
بين الدقة والمسؤولية
يوفّر الذكاء الاصطناعي سرعة هائلة، وذاكرة لا تنسى، ودقة تتجاوز قدرات الإنسان، لكنه في الوقت ذاته يطرح سؤالًا أخلاقيًا لا يمكن تجاهله: هل تملك الأنظمة الصحية الجاهزية التنظيمية والأخلاقية لاستيعاب هذه القوة واستخدامها بحكمة؟
تكشف هذه الدراسة هشاشة العظام، لكنها تكشف أيضًا هشاشة النماذج الصحية التي تعتمد على ذاكرة بشرية محدودة. ومع إعادة تعريف العلاقة بين الطبيب والصورة الطبية، يبدو أن الطب يدخل عصرًا جديدًا، يرى فيه الماضي بوضوح… لينقذ المستقبل مبكرًا.








