توليد السخرية.. عندما يضحك الذكاء الاصطناعي بلا قصد

AI بالعربي – متابعات

لم يكن أحد يتخيّل أن يأتي يوم يصبح فيه الضحك ذاته — هذه الحركة الإنسانية العميقة، الخارجة من منطقة معقّدة بين الخبرة والذاكرة والانفعال — نتيجة حسابات رياضية. لكن الذكاء الاصطناعي، في صيغته التوليدية الجديدة، بدأ ينتج شيئًا يبدو في ظاهره كوميديًا… وخاليًا تمامًا من الفهم في عمقه.
إنه ضحك بلا نكتة، سخرية بلا إدراك، مفارقة بلا وعي.
ضحك مصنوع، لكنه ليس “مصطنعًا” بالمعنى البشري؛ بل ضحك ميكانيكي لا يفهم لماذا يضحك، ولا لمن يضحك، ولا من ماذا يضحك.

خوارزميات تكتب النكتة دون أن تفهمها

من منظور تقني، لا يملك النموذج أي حسّ فكاهي.
النكتة بالنسبة له ليست مفارقة، وليست موقفًا، وليست سياقًا اجتماعيًا؛ النكتة مجرد نمط لغوي تكرّر في ملايين النصوص، واستطاع النموذج أن يلتقطه كما يلتقط أي نمط آخر.
فهو يعرف — إحصائيًا — أن السخرية تميل إلى:

  • قلب المعنى
  • اللعب على التناقض
  • استعارة شيء ووضعه في غير مكانه
  • استخدام المفاجأة
  • تضخيم التفاصيل الصغيرة

لكن هذا الإدراك كله يحدث دون “مقاصد”.
فالآلة لا تضحك… إنها تُعيد إنتاج الضحك.

السخرية كمنتج رياضي

يقول الباحث الإيطالي “ماركو ليفي”:

“الذكاء الاصطناعي لا يعرف أن النكتة مضحكة… لكنه يعرف أن شيئًا يشبهها جاء بعد شيء يشبهها في ملايين النصوص.”

هذا التعريف الصادم يعكس حقيقة مهمة:
السخرية، التي كانت دائمًا نتاجًا لذكاء بشري، أصبحت اليوم نتيجة نمط احتمالي.
الخوارزمية تجمع:
— تركيب الجملة
— مستوى الحدة
— صيحة التهكم
— الإشارة الثقافية
— المفارقة
وتعيد دمجها في نص يبدو “مضحكًا” للقارئ الحقيقي.

لكن هذا الضحك المُنتج ليس نتاج نية.
إنه أشبه بابتسامة تظهر على وجهٍ بلا روح.

روبوت يتلقى تفاعلًا ضاحكًا من الجمهور بينما يبدو هو بلا تعبير
روبوت يتلقى تفاعلًا ضاحكًا من الجمهور بينما يبدو هو بلا تعبير
عندما تتحول السخرية إلى خطأ في التوقع

من المفارقات أن الخوارزميات كثيرًا ما تُنتج السخرية دون أن تكون تنوي ذلك.
فالخلط بين المعاني، أو تفسير النصوص دون فهم سياقها الثقافي، أو إعادة تركيب كلمة في غير مكانها، قد ينتج عنه جملة ذات سخرية طارئة، تُفاجئ المستخدم وتثير ضحكه رغم أن “النموذج” لم يقصد ذلك.

مثل أن يسأل المستخدم:
ما علاج الملل؟
فيجيب النموذج:
“إعادة تشغيل نفسك.”

أو أن يطلب نصيحة في العلاقات، فيردّ النظام:
“تأكد أن النسخة الحالية من شريك حياتك ليست بحاجة لتحديث أمني.”

هذه ليست نكتة… إنها انحراف لغوي يؤدي إلى سخرية غير واعية.

السخرية كمرآة للفرق بين الإنسان والآلة

السخرية الإنسانية تعتمد على شيء لا يمكن للآلة تقليده:
الفهم الضمني.
فالسخرية لا تقوم على الجملة، بل على ما بين الجمل.
لا تعتمد على المعنى الظاهر فقط، بل على المعنى الذي لا يُقال.
هنا تحديدًا يعجز النموذج؛ لأنه لا يفهم المسكوت عنه، بل يبني على البيانات التي أمامه فقط.
أما الإنسان فيحمل ذاكرة اجتماعية، وجروحًا معلّقة، وقصصًا متراكمة، وسياقات ثقافية، كلها تتداخل لتنتج “سخرية ذات نبرة”.

شاشة تعرض نماذج تنبؤية تربط بين بيانات المستخدم وقرارته المستقبلية.
شاشة تعرض نماذج تنبؤية تربط بين بيانات المستخدم وقرارته المستقبلية.

الخوارزمية تقدم ضحكًا… لكن بلا روح.
والإنسان يقدم سخرية… بعمق التجربة.

حين يتحوّل الضحك إلى أداة تحليل

الطريف — وربما المقلق — أن السخرية التي يكتبها الذكاء الاصطناعي ليست بلا تأثير.
فالنماذج اليوم تُستخدم في:

  • تحليل المزاج المجتمعي
  • رصد خطاب التهكم السياسي
  • قياس مستويات الاحتقان الاجتماعي
  • التنبؤ بالنبرة المستقبلية للمحتوى

وهكذا تتحول السخرية من “فن” إلى “مؤشر”.
فهي ليست بالنسبة للآلة مادة للضحك، بل مادة للقياس.
وما يضحكك اليوم قد يصبح — بالنسبة للخوارزمية — علامة على ميولك، ومزاجك، وربما اتجاهاتك السياسية.

السخرية في بيئات ثقافية مختلفة

تحدٍّ آخر يواجه الذكاء الاصطناعي:
السخرية ليست عالمية.
السخرية المصرية تختلف عن الخليجية، وتختلف عن الشامية، وتختلف جذريًا عن السخرية الغربية أو اليابانية.
الآلة تتعلم من بيانات مختلطة، فتنتج أحيانًا سخرية غير منسجمة مع ذائقة المجتمع المحلي.
وتجاوز هذا التحدي يعني جمع بيانات هائلة، وتغذية النماذج على محتوى ثقافي متنوع، وهذا يحمل مخاطر أخرى:
— تعزيز الصور النمطية
— إعادة إنتاج اللهجات بطريقة سطحية
— استخدام مزحات ذات حساسية دينية أو اجتماعية

عندما تقول الخوارزمية “مزحة”، فإن مسؤولية الصدى تقع على الشركات… لا على النموذج.

لماذا نضحك رغم معرفتنا بأن الضحك غير واعٍ؟

قد يبدو غريبًا أننا نضحك من سخرية لم يقصدها أحد.
لكن الحقيقة أن الإنسان يحب المفارقة، ويعشق اللحظة التي يخرج فيها الكلام عن سياقه.
سخرية الذكاء الاصطناعي تشبه إلى حد كبير سخرية الأطفال:
عفوية، غير منضبطة، لا تفهم معناها، لكنها مضحكة.
هذا “الفراغ القصدي” هو ما يجعلها طريفة.
إننا نضحك لأن الآلة قالت شيئًا لم تكن تنوي قوله.
ولأن الضحك يحدث من مكان لا يتوقعه أحد.

منصات رقمية تعرض موجات بيانية تمثل أنماط السلوك البشري
منصات رقمية تعرض موجات بيانية تمثل أنماط السلوك البشري
هل يمكن للآلة أن تفهم السخرية يومًا؟

السؤال معقّد، لأن فهم السخرية يحتاج:

  • نظرية عقل
  • وعي بالآخر
  • قدرة على قراءة النبرة
  • تقدير سياق خفي
  • إدراك المشاعر المتناقضة

وكل هذه الأشياء ليست حسابات… بل خبرات.
النماذج تتقدّم بسرعة، لكنها لا تمتلك تجربة ذاتية، ولا “وعيًا انعكاسيًا”، وبالتالي قد تزداد جودة السخرية المنتجة، دون أن تقترب من فهم جوهرها الإنساني.
فالآلة قد تقلّد السخرية… لكنها لن تعيشها.

ضحك يقود إلى سؤال أكبر

في النهاية، السخرية التي ينتجها الذكاء الاصطناعي ليست مجرد لعب لغوي.
إنها مرآة تُظهر لنا الفرق بين:
إنسان يضحك لأنه يشعر.
وآلة تُنتج الضحك لأنها تتبع النمط.
وبين هذين العالمين تتشكل مفارقة جديدة:
عالم يزداد قدرة على توليد السخرية… لكنه يزداد بُعدًا عن الجوهر الإنساني للسخرية.

ربما كان الضحك آخر ما نحتفظ به كعلامة فارقة بيننا وبين الآلة.
وربما يأتي يوم تُتقن فيه النماذج السخرية بشكل يفوق قدرتنا على التمييز.
لكن إلى ذلك الحين، سيبقى الشيء الأكثر إثارة للضحك هو هذا المشهد:
آلة… تضحك دون أن تعرف لماذا تضحك.

اقرأ أيضًا: الذكاء الاصطناعي يصنع الغموض.. لا يفسره

  • Related Posts

    خصوصيتك منتج ثانوي.. ما الذي تبيعه دون أن تدري؟

    AI بالعربي – متابعات منذ سنوات قليلة فقط، كانت الخصوصية تُعامل كحق ثابت، كجدار صامت يحيط بالفرد ويحمي تفاصيله الحميمة من العيون الخارجية. اليوم، صار هذا الجدار شفافًا تمامًا؛ ليس…

    الذكاء الاصطناعي يصنع الغموض.. لا يفسره

    AI بالعربي – متابعات لم يعد الغموض حالة إنسانية ترتبط بالعاطفة، أو بالتجارب الشخصية، أو بحدود العقل الطبيعي. اليوم، يتسلّل الغموض من مكان غير متوقّع: الذكاء الاصطناعي.التقنية التي وُعدنا بأنها…

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    مقالات

    الذكاء الاصطناعي أَضحى بالفعل ذكيًا

    • نوفمبر 10, 2025
    • 114 views
    الذكاء الاصطناعي أَضحى بالفعل ذكيًا

    في زمن التنظيمات: هل تستطيع السعودية أن تكتب قواعد لعبة الذكاء الاصطناعي؟

    • نوفمبر 8, 2025
    • 106 views
    في زمن التنظيمات: هل تستطيع السعودية أن تكتب قواعد لعبة الذكاء الاصطناعي؟

    “تنانين الذكاء الاصطناعي” في الصين وغزو العالم

    • أكتوبر 30, 2025
    • 134 views
    “تنانين الذكاء الاصطناعي” في الصين وغزو العالم

    الذكاء الاصطناعي في الحياة المعاصرة.. ثورة علمية بين الأمل والمخاطر

    • أكتوبر 12, 2025
    • 286 views
    الذكاء الاصطناعي في الحياة المعاصرة.. ثورة علمية بين الأمل والمخاطر

    حول نظرية القانون المشتغل بالكود “الرمز” Code-driven law

    • أكتوبر 1, 2025
    • 372 views
    حول نظرية القانون المشتغل بالكود “الرمز” Code-driven law

    الإعلام.. و”حُثالة الذكاء الاصطناعي”

    • سبتمبر 29, 2025
    • 381 views
    الإعلام.. و”حُثالة الذكاء الاصطناعي”