أين تنتهي البيانات وتبدأ الشخصية؟

AI بالعربي – متابعات

لم يعد السؤال اليوم: “ما الذي تعرفه عنك شركات التقنية؟” بل أصبح أقرب إلى سؤال وجودي أعمق: “أين تنتهي البيانات التي تجمعها عنك الخوارزميات… وأين تبدأ أنت؟”
فالإنسان، الذي كان يعرّف نفسه عبر تجاربه، قراراته، مشاعره، ووعيه، يجد نفسه اليوم محاطًا بطبقات رقمية كثيفة تشبهه أحيانًا لدرجة الالتباس، وتختلف عنه أحيانًا أخرى لدرجة القلق. إنها تلك اللحظة التي يصبح فيها الإنسان مزيجًا من ذاته ومن نسخة موازية تعيد الخوارزميات كتابتها باستمرار، وفق أنماط لا يراها أحد.
يقول عالم النفس التحليلي “كارل غوستاف يونغ” في أحد نصوصه:

“من لا يعرف ظله، لا يعرف نفسه.”
واليوم، يبدو أن ظلّ الإنسان لم يعد معنويًا كما كان، بل أصبح ظلًا رقمياً، يعيش في خوادم بعيدة، ويكبر كل يوم.

الشخصية كمعادلة احتمالية

النماذج التنبؤية الحديثة لا ترى الإنسان ككائن معقد له إرادة وحكاية وتاريخ عاطفي، بل كصورة احتمالية؛ مجموعة نقاط وارتباطات ومعاملات رياضية تسمح للآلة بأن تستنتج كيف سيشتري، كيف سيصوّت، كيف يتحرك، ماذا يحب، وماذا يرفض.
إنها شخصية منسوجة من “البيانات”، لا من التجارب الداخلية.
وفي لحظة ما، يصبح النموذج قادرًا على اقتراح ما ستفعله قبل أن تفعل، وما ستختاره قبل أن تختار، وما ستفكر فيه قبل أن يمر على بالك.
هذا الإدراك الجديد يعيد تعريف الشخصية الإنسانية: هل هي كيان حرّ، أم مجرد نمط قابلة الخوارزمية لتوقعه؟

إنسان يمشي في مساحة ضبابية بينما تحاول خوارزميات رقمية رسم ملامحه باستمرار.
إنسان يمشي في مساحة ضبابية بينما تحاول خوارزميات رقمية رسم ملامحه باستمرار.
حين تختصر الخوارزمية الإنسان في “سلوك”

من منظور الذكاء الاصطناعي، الشخصية ليست ما نقوله عن أنفسنا، ولا الطريقة التي نرى بها ذواتنا، بل ما نفعله.
السلوك هو الحقيقة العليا. وما دام يمكن قياس السلوك، وتتبع أثره، وتحويله إلى معادلات، فإن كل شيء يمكن تنبؤه.
هكذا تنشأ الفجوة الخطيرة: الإنسان يرى شخصيته كاستمرار لوعيه، أما الآلة فترى الشخصية كمحصلة لأنماطه المتكررة.
ما نقوله عن أنفسنا قد يكون هادئًا، مليئًا بالصبر والحكمة والوعي، لكن ما نقوم به على الإنترنت — بحث متسرّع، شراء مفاجئ، مشاركة عاطفية — هو ما يحدد صورة “الذات الرقمية”.
وفي النهاية، تتعامل المنصات مع الصورة الرقمية على أنها “الحقيقة”، وليس مع الذات الإنسانية المتعددة والمتناقضة.

طغيان “الذات المولَّدة”

بمرور الوقت، يبدأ الإنسان نفسه في الرجوع إلى “ذاته الرقمية” ليعرّف نفسه.
يقرأ التوصيات التي تقدمها له المنصات كأنها نافذة على شخصيته: الأفلام التي يقترحها النظام، المنتجات الموصى بها، نوع الموسيقى الذي يفرضه خوارزميًا، بل وحتى علاقاته التي تحددها التطبيقات وفق “مدى التوافق”.
ومع الوقت، يبدأ الإنسان في التصرّف وفق ما تتوقعه الآلة.
وبذلك، تكتمل الحلقة:
الخوارزمية تتنبأ بسلوكك → أنت تتصرف بما يشبه التنبؤ → النموذج يزداد يقينًا بأنك هكذا → وتصبح فعليًا هكذا.
يقول الباحث الأمريكي ديفيد لايون في دراساته عن المراقبة الرقمية:

“المراقبة لا تكتفي بوصف الناس، بل تعيد تشكيلهم.”

متى يفقد الإنسان حقه في الغموض؟

الغموض جزء أساسي من الشخصية.
هو المسافة التي تفصل بين ما نعرفه عن أنفسنا وما لا نعرفه بعد.
لكن الخوارزميات لا تؤمن بالغموض.
كل شيء بالنسبة لها إمّا قابل للقياس الآن، أو قابل للقياس لاحقًا.
وهكذا يبدأ شيء يشبه “تسطيح الشخصية”: تتحول قرارات الإنسان إلى عمليات حسابية، وتتحول آراؤه إلى مجموعات نقاط، وتصبح حياته الداخلية مجرد أثر يمكن تتبعه بالتحليل.
لكن ماذا نفعل عندما تعبث الخوارزمية بهذه البيانات أو تسيء تفسيرها؟
ماذا يحدث للشخصية عندما تعرف الآلة “نسخة خاطئة” عنك، وتبني عليها قرارات مصيرية: وظيفة، قرض، قبول جامعي، تقييم طبي، أو حتى تقرير أمني؟
هنا يتجلى سؤال المقال: هل نحن ما نفعله… أم ما تقوله البيانات أننا نفعله؟

وجه إنسان نصفه حقيقي ونصفه مرسوم بخطوط خوارزمية، كأن الذات مقسومة بين عالمين.
وجه إنسان نصفه حقيقي ونصفه مرسوم بخطوط خوارزمية، كأن الذات مقسومة بين عالمين.
الشخصية بين الداخل والخارج

لفهم العلاقة الجديدة بين الإنسان وبياناته، يجب التمييز بين نوعين من الشخصية:
الذات الداخلية: ما يعيشه الفرد في عمقه — نواياه، مشاعره، تناقضاته، أحلامه، جروحه، خيباته، خفاياه.
الذات الخارجية: ما يظهر للعالم — سلوكه، قراراته، آثاره الرقمية.
الذكاء الاصطناعي لا يرى الداخلية، بل الخارجية فقط.
وهذا يؤدي إلى اختلال خطير: يتمّ تقييم الإنسان وفق سلوكه الخارجي وحده، بينما يتم تجاهل عالمه العاطفي والنفسي المعقد.
في الماضي، كانت المجتمعات تعرف أن الإنسان قد يفعل عكس ما يشعر، وأن القلب قد يقول شيئًا بينما اليد تفعل شيئًا آخر.
اليوم، الخوارزمية لا تعترف بهذه المسافة؛ بالنسبة لها، “أنت ما تفعل”.
وهو تعريف ناقص، لكنه يتحول تدريجيًا إلى تعريف رسمي، تتعامل به الشركات والدول والمؤسسات.

عندما تصبح البيانات أكثر إقناعًا من الإنسان نفسه

حدثت مواقف عديدة — في البنوك، في جهات السفر، في منصات التوظيف — حيث اعترض شخص على تقييم خاطئ أو قرار حُسم ضده بسبب بيانات غير دقيقة، ومع ذلك تمسكت المؤسسة بقول الخوارزمية.
البيانات أصبحت “سلطة”.
وصوت الإنسان أصبح “ادّعاء”.
هذا التحول يعكس تغيّرًا عميقًا في تصور العالم للشخصية:
لم يعد “مَن تقول إنك أنت” هو المهم، بل “مَن تقول البيانات إنك أنت”.
ومع اعتماد الحكومات على نماذج التنبؤ، ومع دخول الذكاء الاصطناعي في الأمن والتعليم والصحة والقضاء، يصبح هذا السؤال أكثر خطورة من أي وقت مضى.

هل يمكن للبيانات أن تختزل الإنسان؟

تبدو الإجابة الفلسفية معروفة: بالطبع لا.
لكن الإجابة التقنية تقول: نعم، إلى حدّ يسمح للخوارزمية بصنع قرارات كبيرة.
وهذا “الحدّ” هو الذي يجب أن نفكر فيه بجدية.
فالإنسان ليس فقط سلوكًا قابلًا للقياس، بل كائن يعيش في مساحة غير قابلة للقياس:
بداياته، شكوكه، مشاعره التي لا يعرف طريقة لوصفها، لحظات صمته، رغبته في البدء من جديد، تردده، وحتى اندفاعه المفاجئ الذي لا تفسير له.
هذه المنطقة الرمادية — التي يسميها الفلاسفة “المساحة الإنسانية الخالصة” — هي ما يفتقده الذكاء الاصطناعي.
وإذا تركنا له المساحة كلها، لن يبقى للإنسان مكان يتنفس فيه بعيدًا عن القياس.

ظلال بشر تتداخل مع خطوط متشابكة من البيانات، كأنها شخصيات منسوجة بخيوط رقمية.
ظلال بشر تتداخل مع خطوط متشابكة من البيانات، كأنها شخصيات منسوجة بخيوط رقمية.
بين الحماية والسيطرة

هناك من يقول إن جمع البيانات يحمي الناس: يحميهم من الاحتيال، من الجريمة، من الأخطاء الطبية، من القرارات المتسرعة، ومن المخاطر الاقتصادية.
وهذا صحيح جزئيًا.
لكن الحماية تتحول إلى سيطرة عندما تخرج البيانات عن إطارها الطبيعي.
السيطرة تبدأ عندما تتجاوز البيانات وظيفتها في “الفهم” وتتحول إلى “تقرير المصير”.
وهذا ما يحدث اليوم في بعض النماذج والأدوات التي تدير حياة الناس دون أن يشعروا: أنظمة تقييم ائتماني، خوارزميات قبول وظيفي، أدوات تحليل شخصية، منصات تتبع سلوك الطلاب، ونماذج تتنبأ بالاستقرار العاطفي للأفراد عبر أنشطتهم الرقمية.
تقول الباحثة الأميركية شيلا زوبوف:

“كل ما يمكن تحويله إلى بيانات… سيُستخدم يومًا ما للسيطرة.”

ماذا يبقى للإنسان؟

في عالم تزداد فيه البيانات قدرة على تشكيل الشخصية، يبقى للإنسان شيء واحد لا تستطيع الخوارزميات قياسه:
قدرته على مفاجأة نفسه.
على اتخاذ قرار لا يتوقعه أحد، ولا تشرحه البيانات.
على الخروج من النمط الذي يعتقد النموذج أنه ثابت.
هذه القدرة، التي تبدو غير منطقية بالنسبة للآلة، هي ما يجعل الشخصية الإنسانية كيانًا مفتوحًا وغير مكتمل.
فالشخص ليس ما يفعله فقط، ولا ما تقوله البيانات عنه، بل ما يمكن أن يصبحه في المستقبل.

حين يجلس الإنسان أمام مرآته الجديدة

لم تعد المرآة زجاجًا، بل أصبحت شاشة.
تعرض لك نسخة منك، مبنية على كل شيء صنعته يومًا على الإنترنت، مجمّعًا في شخصية رقمية تقول للعالم: “هذا أنت.”
لكن الحقيقة أن الإنسان أوسع من ذلك، وأعمق بكثير.
ولذلك، ربما يكون السؤال الأكثر إلحاحًا اليوم هو:
هل نريد خوارزميات تعرف ما نفعله… أم خوارزميات تفهم من نحن؟
وهل نريد للحياة أن تصبح قابلة للتنبؤ بالكامل… أم نريد أن نترك مساحة للغموض، للخطأ، للصدفة، وللإنسانية ذاتها؟
إن الشخص يبدأ حيث تنتهي البيانات، حيث لا تصل الخوارزميات، في تلك البقعة العميقة التي يسكنها سؤال:
“من أنا… إذا لم تكن البيانات قد أجابت بالنيابة عني؟”

اقرأ أيضًا: المحتوى المحلي يتبخر.. الذكاء الاصطناعي يخلّف فراغًا ثقافيًا

  • Related Posts

    توليد السخرية.. عندما يضحك الذكاء الاصطناعي بلا قصد

    AI بالعربي – متابعات لم يكن أحد يتخيّل أن يأتي يوم يصبح فيه الضحك ذاته — هذه الحركة الإنسانية العميقة، الخارجة من منطقة معقّدة بين الخبرة والذاكرة والانفعال — نتيجة…

    خصوصيتك منتج ثانوي.. ما الذي تبيعه دون أن تدري؟

    AI بالعربي – متابعات منذ سنوات قليلة فقط، كانت الخصوصية تُعامل كحق ثابت، كجدار صامت يحيط بالفرد ويحمي تفاصيله الحميمة من العيون الخارجية. اليوم، صار هذا الجدار شفافًا تمامًا؛ ليس…

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    مقالات

    الذكاء الاصطناعي أَضحى بالفعل ذكيًا

    • نوفمبر 10, 2025
    • 113 views
    الذكاء الاصطناعي أَضحى بالفعل ذكيًا

    في زمن التنظيمات: هل تستطيع السعودية أن تكتب قواعد لعبة الذكاء الاصطناعي؟

    • نوفمبر 8, 2025
    • 105 views
    في زمن التنظيمات: هل تستطيع السعودية أن تكتب قواعد لعبة الذكاء الاصطناعي؟

    “تنانين الذكاء الاصطناعي” في الصين وغزو العالم

    • أكتوبر 30, 2025
    • 133 views
    “تنانين الذكاء الاصطناعي” في الصين وغزو العالم

    الذكاء الاصطناعي في الحياة المعاصرة.. ثورة علمية بين الأمل والمخاطر

    • أكتوبر 12, 2025
    • 286 views
    الذكاء الاصطناعي في الحياة المعاصرة.. ثورة علمية بين الأمل والمخاطر

    حول نظرية القانون المشتغل بالكود “الرمز” Code-driven law

    • أكتوبر 1, 2025
    • 371 views
    حول نظرية القانون المشتغل بالكود “الرمز” Code-driven law

    الإعلام.. و”حُثالة الذكاء الاصطناعي”

    • سبتمبر 29, 2025
    • 380 views
    الإعلام.. و”حُثالة الذكاء الاصطناعي”