خصوصيتك منتج ثانوي.. ما الذي تبيعه دون أن تدري؟

AI بالعربي – متابعات

منذ سنوات قليلة فقط، كانت الخصوصية تُعامل كحق ثابت، كجدار صامت يحيط بالفرد ويحمي تفاصيله الحميمة من العيون الخارجية. اليوم، صار هذا الجدار شفافًا تمامًا؛ ليس لأنه تهدّم، بل لأننا — دون أن ننتبه — صرنا نحفر فيه ثقوبًا يومية، ونعلّق عليها صورنا، ومواقعنا، وسلوكنا، وانفعالاتنا، بل وحتى نقاط ضعفنا. ما لم يكن واضحًا للناس أن الخصوصية لم تعد سلعة، بل أصبحت منتجًا ثانويًا يُستخرج من كل فعل رقمي نقوم به، ويُعاد بيعُه دون أن نشارك نحن في الثمن أو نعرف أين ينتهي مصيره.

يقول الباحث الألماني “لويس فينغر”:

“الإنسان في العصر الرقمي لا يقدّم بياناته… بل يقدّم خريطة نفسه.”

كيف تحوّلت البيانات الشخصية إلى اقتصاد موازٍ؟

لم تعد الشركات تجمع بياناتك لتقدّم لك خدمة أفضل فقط، فهذه النظرة المثالية سقطت مبكرًا. ما يجري في الواقع أشبه بمصنع عملاق يعتمد على ملايين العمال غير المرئيين… ونحن هؤلاء العمال. نستخدم التطبيقات، ننقر، نمرر، نبحث، نغضب، نفرح، نعلّق، ننشر، نظهر ثم نختفي. كل فعل يُحوّل إلى “معلومة”، وكل معلومة تُعاد صياغتها لتصبح قيمة تجارية.

إن ما يدهش الخبراء اليوم ليس حجم البيانات، بل نوعيتها. فالهواتف والأجهزة الوسيطة والنماذج الذكية قادرة على قراءة ما وراء السلوك الظاهر: ميولك، حساسيتك، استجاباتك اللاواعية، مستوى احتمالية تردّدك، وأنماط تفاعلك مع الإجهاد والراحة.

هنا لم تعد الخصوصية مجرد صور ومواقع وأسماء.
لقد أصبحت معلومات تفسيرية عنك أنت — كيف تفكّر، كيف تتردد، وكيف تتأثر.

منصات رقمية تعرض موجات بيانية تمثل أنماط السلوك البشري
منصات رقمية تعرض موجات بيانية تمثل أنماط السلوك البشري
الذكاء الاصطناعي يعيد تركيبك من جديد

النماذج التنبؤية اليوم لا تحتاج إلى ملف كامل عنك كي ترسم ملامحك؛ يكفيها أثر صغير، حركة واحدة، بضع نقرات، لحظات من البطء أو السرعة. تتعامل الخوارزمية مع هذه الآثار كما يتعامل عالم الأنثروبولوجيا مع رموز قديمة، لكنها قادرة على استنتاج ما هو أعمق بكثير مما تتوقع.

على سبيل المثال:

  • طريقة حملك للهاتف تكشف مستوى توترك.
  • توقيت استخدامك للتطبيقات يكشف نمط حياتك.
  • تسلسل كتابتك للرسائل يكشف حالتك النفسية.
  • معدل مشاهدتك للمحتوى يُظهر أي نوع من الضغوط تعمل تحتها.
  • تفضيلاتك العفوية تُترجم إلى احتمالات سياسية واجتماعية واقتصادية.

إن الذكاء الاصطناعي لا يراقبك… بل يُعيد تفكيكك ثم تركيبك في صورة نموذج قابل للبيع.

السوق الخفي: من يشتريك وأنت لا تدري؟

هناك سوق كاملة قائمة على تريليونات البيانات التي لا تراها.
شركات الإعلانات.
منصات التنبؤ بالسلوك.
شركات التأمين.
المؤسسات المالية.
أنظمة التوظيف الرقمية.
حتى الحكومات في بعض الدول.
كلها ترغب في شيء واحد: صورتك الاحتمالية.

هذه الصورة أهم من حقيقتك الفعلية؛ لأنها قابلة للمعالجة، وإعادة الاستخدام، وربطها بخياراتك المستقبلية.
وفي عالم تديره الخوارزميات، الصورة الاحتمالية أقوى من الإنسان نفسه.

يقول المفكر الكندي “جوردان ميلر”:

“لم تعد الشركات تريد معرفة من أنت… بل تريد معرفة ما ستفعله قبل أن تعرفه أنت.”

تمثيل بصري لشخص يتفكك إلى نقاط بيانات تُسحب إلى شبكة رقمية
تمثيل بصري لشخص يتفكك إلى نقاط بيانات تُسحب إلى شبكة رقمية
ما الذي تبيعه بالضبط؟

أنت لا تبيع بياناتك فقط.
أنت تبيع:

  • زمنك.
  • اهتمامك.
  • قدرتك على التفاعل.
  • تاريخك العاطفي والسلوكي.
  • توقعاتك البسيطة.
  • ترددك قبل اتخاذ القرار.

لكن الأخطر أنك تبيع حرية الاختيار دون أن تشعر.
فالخوارزميات لا تكتفي بملاحقتك، بل تدفعك تدريجيًا إلى مسار محدد، مُحسّن، مُبسط، سهل، لكنه ليس دائمًا ما كنت ستختاره بوعي كامل.

الخصوصية كمنتج ثانوي: المعنى الحقيقي للمشكلة

حين تنتج الشركات خدمة ما، لا يكون هدفها الأساسي إنشاء بيانات شخصية… بل تصبح البيانات جزءًا تلقائيًا من عملية الاستخدام.
هذا هو “المنتج الثانوي”:
شيء يتكوّن دون قصد مباشر، لكنه يتحول إلى قيمة اقتصادية تفوق قيمة المنتج الأصلي نفسه.

فمثلاً:

  • المنصات الاجتماعية لم تُنشأ لجمع بيانات الحالة النفسية، لكنها تجمعها اليوم بدقة.
  • تطبيقات الخرائط لم تُصمم لتتبع حياتك اليومية، لكنها تفعل ذلك على مدار الساعة.
  • المتاجر الرقمية لم تُبنَ لتحليل قراراتك الشرائية العاطفية، لكنها تعرف متى تتخذ قرارات ت impulsive.

وهكذا تتحول حياة المستخدم كلها إلى شيء “مشتق” من الاستخدام… شيء يُباع ويُشترى

شاشة تعرض نماذج تنبؤية تربط بين بيانات المستخدم وقرارته المستقبلية.
شاشة تعرض نماذج تنبؤية تربط بين بيانات المستخدم وقرارته المستقبلية.
من يملكك في النهاية؟

السؤال الأخطر اليوم ليس:
من يمتلك بياناتك؟
بل:
من يمتلكك عبر بياناتك؟

فامتلاك البيانات يعني امتلاك القدرة على:

  • توجيهك نحو محتوى معين.
  • التحكم في تفضيلاتك على المدى الطويل.
  • التأثير في قراراتك الاستهلاكية والسياسية والاجتماعية.
  • التنبؤ بسلوكك ضمن هامش خطأ يقترب من الصفر.

حين تصبح توقعات الخوارزمية دقيقة جدًا، يصبح الفرق بين “أنت” و”نموذجك الرقمي” ضئيلًا للغاية.
وهنا يتحول الإنسان من فرد مستقل إلى خوارزمية قابلة للشراء.

عندما يصبح الإنسان مادة خام

في مرحلة ما من التاريخ الصناعي، كان الفحم المادة الخام.
ثم أصبح النفط.
ثم أصبحت البيانات.
والآن، في زمن الذكاء الاصطناعي، لم تعد البيانات وحدها هي المادة الخام… بل أصبح الإنسان نفسه مادة خام.

سلوكك مادة.
مشاعرك مادة.
اختلاجاتك النفسية مادة.
لحظات ضعفك مادة.
انفعالاتك القصيرة مادة.

تُحلّل وتُقاس وتُعاد صياغتها لتصبح جزءًا من منظومة هائلة لا تهدف إلى فهمك، بل استغلال توقعاتك.

لماذا تتحول خصوصيتك إلى شيء غير مرئي؟

أخطر ما يحدث للخصوصية اليوم أنها أصبحت “غير محسوسة”.
لم تعد جزءًا من صورتك اليومية، لأنها لم تُسرق بالقوة… بل انسابت من يديك بالتدريج، عبر اختيارات بدت في لحظتها بسيطة:
— تسجيل دخول سريع
— قبول شروط الخدمة
— مشاركة موقع
— مزامنة الحساب
— تحسين التجربة

هذه القرارات الصغيرة صنعت مسارًا كبيرًا:
مسارًا يجعل الخصوصية شيئًا طبيعيًا أن يُفرّط فيه، وشيئًا بديهيًا أن يختفي.

إن الخصوصية اليوم لا تُؤخذ منك… أنت من يسلّمها.

هل يمكن استعادة ما ضاع؟

الجواب ليس بسيطًا.
الخصوصية التي تفقدها اليوم ليست مجرد معلومة، بل نموذجًا كاملًا عنك تم بناؤه عبر سنوات.
حتى لو حذفت صورك وتطبيقاتك وتعليقاتك، سيبقى النموذج قائمًا:
— رغباتك
— توقعاتك
— معادلاتك
— احتمالات سلوكك
لا يمكن حذفها لأنها تحوّلت إلى بنية رياضية داخل أنظمة لا تعرفك شخصيًا… لكنها تعرفك إحصائيًا بشكل أدق مما تتصور.

الإنسان بين ذاته وظله الرقمي

ربما أخطر ما في اقتصاد البيانات ليس ضياع الخصوصية، بل ضياع ملكية الذات.
إن النسخة التي تُباع عنك، والتي تتحكم الخوارزميات في إعادة صياغتها، قد تصبح أقوى من النسخة التي تعرفها عن نفسك.
وقد يأتي اليوم الذي يصبح فيه من الصعب التمييز بين:
أنت الحقيقي…
وأنت الذي صاغته البيانات والتوقعات والاحتمالات.

وفي عالم كهذا، لا يعود السؤال:
“ما الذي تبيعه دون أن تدري؟”
بل يصبح:
“ما الذي تبقى منك بعد أن بعت كل شيء دون أن تنتبه؟”

اقرأ أيضًا: الذكاء الاصطناعي يصنع الغموض.. لا يفسره

  • Related Posts

    توليد السخرية.. عندما يضحك الذكاء الاصطناعي بلا قصد

    AI بالعربي – متابعات لم يكن أحد يتخيّل أن يأتي يوم يصبح فيه الضحك ذاته — هذه الحركة الإنسانية العميقة، الخارجة من منطقة معقّدة بين الخبرة والذاكرة والانفعال — نتيجة…

    الذكاء الاصطناعي يصنع الغموض.. لا يفسره

    AI بالعربي – متابعات لم يعد الغموض حالة إنسانية ترتبط بالعاطفة، أو بالتجارب الشخصية، أو بحدود العقل الطبيعي. اليوم، يتسلّل الغموض من مكان غير متوقّع: الذكاء الاصطناعي.التقنية التي وُعدنا بأنها…

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    مقالات

    الذكاء الاصطناعي أَضحى بالفعل ذكيًا

    • نوفمبر 10, 2025
    • 114 views
    الذكاء الاصطناعي أَضحى بالفعل ذكيًا

    في زمن التنظيمات: هل تستطيع السعودية أن تكتب قواعد لعبة الذكاء الاصطناعي؟

    • نوفمبر 8, 2025
    • 106 views
    في زمن التنظيمات: هل تستطيع السعودية أن تكتب قواعد لعبة الذكاء الاصطناعي؟

    “تنانين الذكاء الاصطناعي” في الصين وغزو العالم

    • أكتوبر 30, 2025
    • 134 views
    “تنانين الذكاء الاصطناعي” في الصين وغزو العالم

    الذكاء الاصطناعي في الحياة المعاصرة.. ثورة علمية بين الأمل والمخاطر

    • أكتوبر 12, 2025
    • 286 views
    الذكاء الاصطناعي في الحياة المعاصرة.. ثورة علمية بين الأمل والمخاطر

    حول نظرية القانون المشتغل بالكود “الرمز” Code-driven law

    • أكتوبر 1, 2025
    • 372 views
    حول نظرية القانون المشتغل بالكود “الرمز” Code-driven law

    الإعلام.. و”حُثالة الذكاء الاصطناعي”

    • سبتمبر 29, 2025
    • 381 views
    الإعلام.. و”حُثالة الذكاء الاصطناعي”