AI بالعربي – متابعات
في عالمٍ باتت فيه الشاشات تنطق أكثر مما يكتب البشر، يبرز سؤال جديد لم يكن مطروحًا قبل عقد من الزمن: هل يتحدث الذكاء الاصطناعي بلهجتنا؟
من “شلونك؟” إلى “عامل إيه؟”، ومن “هاك الرابط” إلى “أرسلك اللينك”، تُصبح اللهجات اليومية اختبارًا حقيقيًا لقدرة التقنية على فهم الإنسان كما هو، لا كما ينبغي أن يكون لغويًا.
المنصات اليوم لم تعد محايدة ثقافيًا؛ إنها تُعيد تشكيل اللغة، الذوق، والعادات في الفضاء الرقمي.
وحين تبدأ الخوارزميات في تحديد ما هو “مناسب” و“شائع”، فإنها لا تنقل الثقافة فحسب — بل تعيد رسمها.
من اللغة الموحّدة إلى اللهجات الذكية
لطالما كانت اللهجات جزءًا من الهوية العربية، تحمل في طياتها النبرة والعاطفة والتاريخ.
لكن الأنظمة اللغوية التي تقف خلف المساعدين الذكيين مثل “سيري” و“أليكسا” و“شات جي بي تي” بُنيت أساسًا على اللغة الفصحى أو الإنجليزية، مما جعلها غريبة عن كثير من المستخدمين العرب.
غير أن السنوات الأخيرة شهدت تحوّلًا جذريًا.
فقد بدأت شركات التقنية الكبرى بتدريب نماذج لغوية على اللهجات المحلية: اللهجة الخليجية، والمصرية، والمغربية، وحتى النجدية والحجازية.
هذه النماذج تتعلّم من ملايين الرسائل والمنشورات والمحادثات اليومية، لتقترب أكثر من صوت المستخدم الحقيقي.
يقول الباحث السعودي “عبدالله الشدي” من مركز الأبحاث اللغوية التطبيقي:
“حين تتحدث التقنية بلهجتك، تشعر لأول مرة أنها تخصك فعلاً.”
لكن وراء هذا “القرب اللغوي” تكمُن أسئلة عميقة حول الخصوصية، والتحيّز، ودور الذكاء الاصطناعي في صياغة الهوية الثقافية.

الذكاء الاصطناعي كمرآة ثقافية
الخوارزميات لا تكتفي بفهم الكلمات، بل تلتقط العادات والتعبيرات الثقافية خلفها.
حين يكتب المستخدم الخليجي “أبشر”، أو المصري “ماشي يا باشا”، يتعرّف النظام اليوم على النغمة الاجتماعية والسياق العاطفي.
لكن في الوقت نفسه، يبدأ الذكاء الاصطناعي في “توحيد” طريقة التعبير.
فما يتكرر أكثر في البيانات يصبح هو “اللغة المعيارية” التي تُستخدم في الردود الآلية.
وبذلك، يمكن أن يتحول اللهجوي إلى قياسي جديد تُفرض قواعده من خلال الخوارزميات لا المجامع اللغوية.
تقول الدكتورة “ليلى الزامل”، المتخصصة في ثقافة الاتصال الرقمي:
“الذكاء الاصطناعي لا يتبنّى اللهجة كما هي، بل يعيد تشكيلها لتناسب إيقاع المنصة.”
بمعنى آخر، التقنية لا تنقل الثقافة فحسب، بل تُنقّيها وتعيد إنتاجها في شكلها الأكثر تسويقًا.
فـ”هاشتاغات” اللهجات وعبارات الترند أصبحت وقودًا لتدريب النماذج، مما يجعل الثقافة اليومية مادة خام لصناعة رقمية عالمية.

من “الترند” إلى “التراث”: اللغة كمنتج تكنولوجي
حين تردّد المنصات كلمة أو لهجة معينة آلاف المرات، فإنها تمنحها وزنًا ثقافيًا جديدًا.
الذكاء الاصطناعي لا يقرأ اللغة فحسب، بل يقيس انتشارها، ويُعيد ترتيبها في الوعي الجمعي.
وهكذا تصبح اللغة سلعة: من يتحدث أكثر، يُسمع أكثر.
في هذا السياق، بدأت شركات الإنتاج الرقمي تستعين بنماذج صوتية مدرّبة على لهجات خليجية ومصرية وشامية لتوليد محتوى محلي.
حتى الإعلانات والبرامج التلفزيونية تستعين بخوارزميات “محاكاة اللهجة” لجعل الخطاب أقرب إلى الجمهور المستهدف.
يقول الخبير التقني “جمال المرزوقي”:
“الذكاء الاصطناعي أصبح المخرج الجديد للثقافة، لا الناقل لها.”
لكن هذا التحول يثير سؤالًا فلسفيًا عميقًا:
إذا أصبحت الخوارزميات تحدد أي لهجة أكثر انتشارًا أو قبولًا، فهل نحن من نصنع ثقافتنا، أم أن الثقافة صارت تُدار من وراء الخوادم؟
لهجات على حافة الذكاء
رغم التطوّر المذهل، لا تزال اللهجات الأقل انتشارًا تواجه خطر التهميش الرقمي.
اللهجات البدوية أو الأمازيغية أو السودانية، على سبيل المثال، لم تدخل بقوة في تدريب النماذج اللغوية العالمية، ما يجعلها مهددة بالنسيان الافتراضي.
ففي عالم البيانات، ما لا يُكتب لا يُوجد.
وهذا ما جعل بعض الباحثين العرب يطلقون مبادرات مفتوحة المصدر لتوثيق اللهجات عبر الصوت والنص والصورة.
منها مشروع “لهجتنا” في الخليج، و“دارج” في شمال إفريقيا، و“حكايتي” في مصر.
تقول الباحثة المغربية “فاطمة بوسعيد”:
“الخطر ليس أن تنقرض اللهجات، بل أن تتحدثها الآلة بطريقة لا تشبهنا.”
فاللغة حين تُختزل إلى نموذج، تفقد ظلالها الثقافية: نكتة، إيماءة، لحن، وإيقاع.

شاشة تعرض وجوهًا من دول عربية مختلفة، تتحدث خوارزميات الكلمات المحلية بينها بخطوط متشابكة
بين الأصالة والنسخة الرقمية
ربما سيتحدث الذكاء الاصطناعي قريبًا بكل لهجة عربية بطلاقة مذهلة، لكن السؤال الأهم ليس “هل يفهمنا؟” بل “كيف سيُعيد تشكيلنا؟”.
فاللغة ليست وسيلة للتواصل فحسب، بل مرآة للروح الجماعية.
وإذا أصبحت المنصات تُعيد صياغة لهجاتنا وفق منطقها، فسنجد أنفسنا نتحدث بلغة هجينة: نصفها بشري، ونصفها آلي.
لكن وسط هذا التغيير الهائل، تبقى القوة الحقيقية في يد المستخدم العربي الذي يختار ماذا يكتب وكيف يتحدث.
فكل كلمة باللهجة المحلية تُضيف خيطًا في نسيج الهوية الرقمية للعالم العربي.
وفي النهاية، سيبقى الذكاء الاصطناعي يتعلّم منّا — لكن علينا أن نُعلّمه من نحن.
اقرأ أيضًا: صعود النص بلا كاتب.. نموذج لغوي يصنع الكتب خلال دقائق








