
“من يملك الماضي حين تصمّمه الخوارزميات؟”
AI بالعربي – متابعات
مقدمة
الماضي كان يومًا ذاكرة الإنسان وحده. يرويه من عاشه، ويحفظه التاريخ في الكتب والقصص والصور. لكن في عصر الذكاء الاصطناعي، لم يعد الماضي ثابتًا. الخوارزميات اليوم لا تكتفي بأرشفة ما حدث، بل تعيد تصميمه، تعيد ترتيبه، وتعيد روايته بطرق جديدة. في زمنٍ تتحكم فيه البيانات في السرد، أصبح السؤال الأخطر: من يملك الماضي حين تصمّمه الخوارزميات؟
الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد أداة لحفظ التاريخ، بل تحول إلى محررٍ جديدٍ للذاكرة، يُعيد تشكيل الأحداث كما “يراها” من خلال الأرقام والأنماط. وبين التفسير والتحريف، وبين التحليل والتزييف، تضيع الحدود بين الحقيقة والسرد المبرمج.
من المؤرخ إلى الخوارزمية
في الماضي، كان المؤرخ يكتب من منظور الإنسان. اليوم، الخوارزمية تُعيد كتابة التاريخ من منظور البيانات. تجمع ملايين الوثائق، الصور، والمصادر لتنتج رواية “منطقية” للأحداث، لكنها خالية من الانفعال أو الانحياز الإنساني الظاهر.
غير أن الحياد الظاهري ليس بريئًا دائمًا. فالنظام الذي يُقرر ما يُحذف وما يُظهر، وما يُعتبر “حقيقة” وما يُعتبر “خطأ”، يملك سلطة غير مسبوقة على الذاكرة الجمعية. في الواقع، من يصمم الخوارزمية هو من يختار شكل الماضي الذي سنراه جميعًا.
الذاكرة الرقمية كمجال للسلطة
الذكاء الاصطناعي لا يُخزن الماضي كما هو، بل يضغطه، يُصنّفه، ويُعيد تركيبه وفق معايير الكفاءة. هذا يعني أن الذاكرة الرقمية ليست مجرد أرشيف، بل فضاء سياسي ومعرفي تتحكم فيه الشركات الكبرى والأنظمة التي تمتلك البيانات.
كل صورة تُنشر، كل تغريدة تُحذف، كل مقطع يُفلتر — كلها قرارات خوارزمية تُعيد تشكيل ما نعرفه عن الماضي. فالذاكرة الجماعية لم تعد شأنًا عامًا، بل أصبحت ملكية رقمية خاصة، تُدار بمعايير خفية لا يعرفها المستخدم العادي.
من الحفظ إلى التلاعب
الخطر الحقيقي لا يكمن فقط في فقدان السيطرة على الذاكرة، بل في إعادة كتابة الماضي بطريقة تجعل الأكاذيب تبدو حقائق.
- خوارزميات التوصية قد تُبرز أحداثًا وتُخفي أخرى بناءً على تفضيلات المستخدمين.
- أدوات توليد الصور والفيديو يمكنها إعادة خلق مشاهد تاريخية لم تقع قط.
- أنظمة الأرشفة الآلية تُقرر ما يستحق البقاء وما يُمحى.
بهذا المعنى، لم يعد الماضي نتيجة لما حدث فعلًا، بل لما اختارته الخوارزميات أن يُقال عنه.
الذكاء الاصطناعي والمؤرخ الخفي
الأنظمة التنبؤية لا تكتفي بتلخيص التاريخ، بل تفسره. حين تحلل بيانات الحروب أو التحولات السياسية، تُنتج نماذج تتوقع كيف ولماذا حدثت الأشياء. لكنها بذلك تُعيد صياغة “الأسباب” بطريقة حسابية، متجاهلة العوامل الإنسانية المعقدة مثل الصدفة، والإيمان، والنية.
المؤرخ التقليدي كان يسعى للفهم، بينما الخوارزمية تسعى للأنماط. ولهذا، فإن التاريخ في عصر الذكاء الاصطناعي يفقد طابعه الإنساني، ليصبح جدول بيانات أكثر منه سردًا روائيًا.
أمثلة واقعية
- أدوات مثل ChatGPT وGemini تُستخدم اليوم لإعادة كتابة الأحداث التاريخية في الكتب والمناهج، لكنها تعتمد على قواعد بيانات محددة تُشكل رؤيتها للعالم.
- أنظمة التصوير التوليدي قادرة على إنتاج صور “أرشيفية” لوقائع لم تحدث، مما يُهدد مفهوم الوثيقة نفسها.
- منصات التواصل تُعيد توزيع أخبار الماضي وفق تفاعلات المستخدم، فتجعل من الحدث “المنسي” ترندًا، ومن “الواقع” هامشًا.
إنها عملية إعادة ترتيب للذاكرة الجمعية، حيث لا يعود الماضي ما كان، بل ما تُريد الخوارزمية أن نتذكره.
من يملك الذاكرة؟
حين نُحمّل صورنا، ونكتب يومياتنا، وننشر آرائنا، فإننا في الواقع نُسلم ماضينا طوعًا إلى قواعد بيانات ضخمة. الشركات التقنية أصبحت حارسة الذاكرة الإنسانية الحديثة، تتحكم في أرشفتها وتوزيعها وتفسيرها.
المستخدم يظن أنه يحتفظ بماضيه في “السحابة”، لكنه في الحقيقة يسكن في ذاكرةٍ لا يملك مفاتيحها. ومع الوقت، تصبح هذه الذاكرة الذكية قادرة على إعادة سرد حياة الأفراد والمجتمعات، بل وحتى تعديلها عند الطلب.
الذاكرة الاصطناعية والسلطة الأخلاقية
ما يثير القلق أكثر هو أن الخوارزميات قد لا تكون محايدة أخلاقيًا. فكل نموذج لغوي أو بصري يتغذى على بيانات مُفلترة مسبقًا وفق سياسات معينة. هذا يعني أن هناك أخلاقًا مبرمجة تتحكم في ما يمكن تذكره أو نسيانه.
فإذا أرادت جهة ما “تنظيف التاريخ” من الأخطاء أو الجرائم أو الصور المزعجة، يمكنها ببساطة إعادة تدريب النموذج ليتجاهلها. وهكذا، تُمارس الخوارزميات شكلًا جديدًا من الرقابة الناعمة على الذاكرة.
بين الأرشفة والنسيان
في الماضي، كان النسيان جزءًا طبيعيًا من الذاكرة. لكن الذكاء الاصطناعي لا ينسى أبدًا. كل حدث، كل كلمة، تُخزن إلى الأبد في مراكز البيانات. ومع ذلك، فإن القدرة على التذكّر لا تعني الحقيقة، بل فقط تكرار ما اختير أن يُحفظ.
النتيجة أننا نعيش عصرًا paradoxical:
- لا شيء يُنسى، لكن أشياء كثيرة تُخفى.
- الماضي محفوظ بالكامل، لكنه يُعرض بشكل مُعاد ترتيبه.
وهكذا، يتحول التاريخ إلى ملف ديناميكي متغير، لا إلى سجل ثابت للحقائق.
الوجه المشرق
رغم هذه المخاوف، هناك وجه إيجابي لهذا التطور.
- يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُعيد بناء أحداث ضاعت وثائقها.
- يُسهم في ترميم الصور والأفلام القديمة، وحماية التراث الإنساني.
- يُتيح للباحثين تحليل التاريخ عبر أدوات كمية لم تكن ممكنة من قبل.
إنها ثورة بحثية هائلة تُعيد اكتشاف الماضي بطرق جديدة، لكنها تتطلب وعيًا نقديًا من البشر للحفاظ على أصالة السرد.
الوجه المظلم
في المقابل، يحمل هذا التحول تهديدًا واضحًا للحرية الفكرية والهوية الثقافية.
- الماضي يمكن “إعادة تصميمه” لخدمة أجندات سياسية أو اقتصادية.
- الذاكرة الجماعية قد تُصبح منتجًا يُباع ويُشترى.
- وقد يفقد الإنسان القدرة على التمييز بين الحقيقة والمحاكاة.
بعبارة أخرى، لم يعد الخطر في فقدان الذاكرة، بل في إعادة برمجتها.
صورة تعبر عن إعادة بناء الماضي داخل النظام الرقمي

لوحة فنية ترمز إلى امتزاج التاريخ البشري بالذاكرة الحسابية

صورة تمثل الخوارزمية كمؤرخ جديد يعيد صياغة الماضي

س: هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يغير التاريخ فعلاً؟
ج: نعم، من خلال التحكم في عرض البيانات، ترتيب الأحداث، وتوليد محتوى بصري يغيّر إدراكنا للماضي.
س: من يملك حق التحكم في الذاكرة الرقمية؟
ج: الشركات والمنصات التي تمتلك البنية التحتية لتخزين ومعالجة البيانات.
س: هل هناك حلول لحماية التاريخ من التلاعب الخوارزمي؟
ج: يمكن ذلك عبر سياسات شفافة، وتوثيق المصادر، وإشراف بشري على الأرشفة الرقمية.
س: هل الذكاء الاصطناعي يهدد هوية الشعوب؟
ج: نعم، لأنه قادر على إعادة تعريف السرد التاريخي بما يخدم ثقافات معينة ويهمش أخرى.
الخلاصة
في عالمٍ تصمّمه الخوارزميات، لم يعد الماضي ملكًا لمن عاشه، بل لمن يُبرمجه. فالذكاء الاصطناعي لا يكتفي بتوثيق الذاكرة، بل يعيد هندستها وفق منطق البيانات. وبين الحفظ والتحريف، تقف الإنسانية أمام تحدٍ جديد: كيف نحافظ على الحقيقة في زمنٍ يستطيع فيه الكود أن يعيد كتابة التاريخ؟
ربما يكون المستقبل ملكًا للذكاء الاصطناعي، لكن الماضي يجب أن يظل ملكًا للإنسان، لأنه وحده من يعرف معنى التذكر، ومعنى الندم، ومعنى أن يكون للزمن ذاكرة حقيقية.
اقرأ أيضًا: “سلوك الإنسان كمادة خام”.. النماذج تولّد المستقبل من أخطائنا