AI بالعربي – متابعات
لم يكن الوعي الجماعي، في أي مرحلة تاريخية، كيانًا متماسكًا بالكامل، لكنه كان على الأقل قابلًا للتشارك. كانت هناك لحظات مشتركة، سرديات عامة، نقاشات كبرى تفرض نفسها على المجال العام، حتى مع اختلاف المواقف منها. الصحف، الإذاعة، التلفزيون، ثم الإنترنت في مراحله الأولى، كلها أسهمت في خلق ما يمكن تسميته “الزمن المشترك”؛ ذلك الإحساس بأن الناس، رغم تباينهم، ينظرون إلى العالم من نافذة واحدة تقريبًا. غير أن هذا الزمن بدأ يتشقق مع صعود المحتوى التنبؤي، لا لأنه متنوّع، بل لأنه مُفصّل بدقة مفرطة.
المحتوى التنبؤي لا يخاطب الجمهور، بل يخاطب نسخًا دقيقة منه. لا يسعى إلى بناء معنى مشترك، بل إلى تعظيم التفاعل الفردي. وبهذا، لا يوحّد الوعي، بل يجزّئه بهدوء.

في هذا النموذج، لا يرى الجميع القصة نفسها، ولا يتلقّون الحدث بالطريقة ذاتها. كل مستخدم يعيش داخل فقاعة سردية صُمّمت بناءً على تاريخه، تفاعلاته، ميوله، ومخاوفه. ما يبدو تخصيصًا ذكيًا، يتحوّل تدريجيًا إلى تفكيك للخبرة الجماعية. الحدث الواحد يُعاد صياغته عشرات المرات، ليس لأن الحقيقة متعددة فقط، بل لأن الخوارزمية ترى أن التعدد يزيد زمن البقاء.
من الجمهور إلى المستخدم
التحوّل الأساسي الذي أحدثه المحتوى التنبؤي هو إلغاء مفهوم “الجمهور”. لم يعد هناك متلقٍ عام، بل مستخدم فرد. هذا التحوّل يبدو بريئًا، بل مرغوبًا، لأنه يمنح كل شخص ما يناسبه. لكن الثمن هو اختفاء الأرضية المشتركة. حين لا يشاهد الناس المحتوى نفسه، ولا يقرأون العناوين ذاتها، يصبح النقاش نفسه مجزّأ.
الخوارزمية لا تهتم بأن يتفق الناس أو يختلفوا، بل بأن يتفاعلوا. التفاعل الفردي هو العملة. وكلما كان المحتوى أكثر تخصيصًا، كان أكثر قدرة على الإمساك بالانتباه. النتيجة وعي متشظٍ، لا يلتقي إلا نادرًا.
يقول أحد باحثي الإعلام الرقمي: “لم نعد نعيش في مجتمعات منقسمة فقط، بل في مجتمعات لا ترى انقسامها لأنها لا ترى بعضها.”
الحدث كمنتجات متعددة
في السابق، كان الحدث الكبير يفرض نفسه: حرب، أزمة، اكتشاف، فضيحة. اليوم، الحدث نفسه يُقدَّم بأشكال متناقضة حسب المتلقي. ليس بالضرورة كذبًا، بل انتقاء. زاوية تُبرز الغضب، أخرى تُبرز الأمل، ثالثة تُبرز السخرية. كل نسخة صحيحة جزئيًا، لكنها ناقصة وحدها.
المحتوى التنبؤي يتعلّم أي زاوية تُبقيك متصلًا، فيُغذّيك بها. لا يدفعك لرؤية الصورة الكاملة، بل للصورة التي تُشبهك. وهنا تبدأ التجزئة: ليس لأننا نختلف، بل لأننا لا نرى اختلافنا.

الزمن المنفصل
أحد أخطر آثار هذا النموذج هو تفتيت الزمن. لم نعد نعيش اللحظة نفسها. البعض يرى الخبر فورًا، البعض بعد ساعات، البعض لا يراه أصلًا. الخوارزمية تقرّر التوقيت كما تقرّر المحتوى. وما لا يظهر لك الآن قد لا يظهر أبدًا.
هذا التفتيت الزمني يمنع تشكّل رد فعل جماعي. الغضب يتوزّع، الحزن يتأخّر، الفرح يتلاشى. لا توجد ذروة مشتركة. كل شيء يحدث، لكن بلا صدى موحّد. الوعي الجماعي، الذي كان يتشكّل من التزامن، يفقد إحدى ركائزه الأساسية.
من الفهم إلى التوقّع
المحتوى التنبؤي لا يسعى إلى أن تفهم العالم، بل إلى أن يبقى متوقعًا بالنسبة لك. ما يهمه هو أن يعرف كيف ستتفاعل، لا كيف ستفكّر. لذلك، يُعاد تدوير الأنماط التي أثبتت نجاحها. الاختلاف الحاد يُخفَّف، والمفاجأة تُدار، والصدمة تُقاس.
بهذا، يصبح الوعي الجماعي أقل قدرة على إنتاج مفاجآت تاريخية. لأن المفاجأة تتطلّب صدمة مشتركة، بينما المحتوى التنبؤي يعمل على امتصاص الصدمة قبل أن تتشكّل.

هل نحن داخل فقاعة أم داخل متاهة؟
الحديث عن “فقاعات” المحتوى أصبح شائعًا، لكنه قد لا يكون دقيقًا بالكامل. الفقاعة توحي بالثبات، بينما الواقع أقرب إلى متاهة متحرّكة. المحتوى يتغيّر، لكن ضمن حدود مألوفة. ننتقل من غرفة إلى أخرى، لكن الجدران متشابهة.
هذه المتاهة لا تُغلق علينا الباب، لكنها تُرهقنا. كثرة المحتوى، مع قلّة المعنى المشترك، تُنتج شعورًا بالضياع. نعرف الكثير، لكننا لا نعرف معًا.
التجزئة السياسية والثقافية
في المجال السياسي، تؤدي هذه التجزئة إلى تضخيم الاستقطاب. كل طرف يتغذّى على محتوى يؤكّد رؤيته، ويقلّ احتكاكه بسرديات أخرى. لكن الأخطر من الاستقطاب هو انعدام الحوار. ليس لأن الناس يرفضون النقاش، بل لأنهم لا يتشاركون المرجعيات.
ثقافيًا، يختفي “الحدث الثقافي العام”. الأغنية، الفيلم، الكتاب الذي يتحدّث عنه الجميع يصبح نادرًا. تحلّ محله نجاحات متوازية، كل منها كبير داخل فئته، لكنه غير مرئي خارجها.
هل يمكن إعادة بناء وعي مشترك؟
إعادة بناء الوعي الجماعي لا تعني العودة إلى مركزية قسرية، بل خلق مساحات تقاطع. منصات تُظهر ما هو خارج اهتماماتك، إعلام يُذكّرك بأن هناك آخرين يرون العالم بشكل مختلف، تعليم يُدرّب على قراءة السياق لا الاكتفاء بالخلاصة.
لكن هذا يتطلب تغييرًا في المنطق السائد. طالما ظلّ التفاعل الفردي هو الهدف الأعلى، ستظل التجزئة نتيجة منطقية.
هل المحتوى التنبؤي سبب وحيد لتجزئة الوعي؟
لا، لكنه مسرّع قوي لعملية بدأت مع التفكك الاجتماعي العام.
هل التخصيص دائمًا سلبي؟
ليس بالضرورة، لكنه يصبح خطرًا حين يُلغي المشترك.
لماذا لا نشعر بهذه التجزئة فورًا؟
لأن كل فرد يعيش تجربة متماسكة داخل عالمه الخاص.
هل يمكن للمستخدم مقاومة ذلك؟
جزئيًا، عبر تنويع مصادره والخروج من التوصيات الجاهزة.
ما مسؤولية المنصات؟
إظهار التنوّع لا إخفاؤه، وتوسيع الأفق لا تضييقه.
في النهاية، تجزئة الوعي الجماعي لا تحدث بضربة واحدة، بل عبر آلاف الاختيارات الصغيرة التي تبدو مريحة. كل مرة نفضّل ما يُشبهنا، يبتعد المشترك خطوة. المحتوى التنبؤي لا يفرض علينا العزلة، لكنه يجعلها الخيار الأسهل. والسؤال الذي يبقى معلّقًا: هل يمكن لمجتمع أن يفهم نفسه، إذا كان أفراده لا يعيشون القصة نفسها، ولا حتى في التوقيت نفسه؟
اقرأ أيضًا: نهاية السرد التقليدي.. صعود القصة التنبؤية








