AI بالعربي – متابعات
لم يكن السرد، في جوهره، مجرد ترتيب للأحداث، بل طريقة بشرية لفهم الزمن. البداية تقود إلى عقدة، والعقدة تنفتح على نهاية، وبينهما تتشكّل المعاني، والاختيارات، والندم، والتحوّل. هكذا تعلّم الإنسان أن يحكي، وهكذا تعلّم أن يفهم نفسه. لكن مع دخول النماذج التنبؤية إلى قلب صناعة المحتوى، بدأت هذه البنية القديمة تهتز. لم تعد القصة تُروى لتُكتشف، بل لتُتوقّع. ولم يعد السؤال: ماذا سيحدث؟ بل: ما الذي ترجّحه البيانات أن يحدث؟
نحن لا نشهد فقط تغيّرًا في أدوات الكتابة، بل تحوّلًا في منطق السرد نفسه.

القصة التنبؤية لا تنتظر النهاية، لأنها تبدأ منها. تُبنى على تحليل سلوك الجمهور، وعلى أنماط الاستهلاك السابقة، وعلى ما أثبت قدرته على الإبقاء على الانتباه. النهاية لم تعد مفاجأة، بل نتيجة محسوبة. الحبكة لم تعد مغامرة، بل مسارًا آمنًا. وهنا يفقد السرد أحد عناصره الأساسية: المخاطرة.
من الحكاية إلى النموذج
في السرد التقليدي، كان الكاتب يغامر. قد يخسر قارئًا، أو يربك المتلقي، أو يخذل توقعاته. لكن هذه المغامرة نفسها كانت تمنح القصة قوتها. أما في السرد التنبؤي، فالكاتب — أو النظام — يسعى لتقليل الخسارة. كل منعطف يُختبر مسبقًا، كل شخصية تُصمَّم وفق ما يفضّله الجمهور، كل ذروة تُقاس بمدى قابليتها للمشاركة.
الخوارزمية لا تسأل: هل هذه القصة صادقة؟
بل تسأل: هل هذه القصة تعمل؟
والعمل هنا يعني الاستمرار، لا المعنى. أن تُشاهَد الحلقة التالية، أن يُضغط على الجزء القادم، أن يبقى المستخدم داخل السرد دون أن يخرج للتفكير.
القارئ يتحوّل إلى إشارة
في هذا النموذج، لم يعد القارئ شريكًا في التأويل، بل عنصرًا في المعادلة. تفاعله يُسجَّل، وتوقّفه يُحلَّل، وملله يُستبق. القصة تتغيّر بناءً عليه، لا ليُفاجأ، بل ليُحتوى. ومع الوقت، يشعر المتلقي بأن القصة “تشبهه”، لكنها في الحقيقة تعكس متوسط سلوكه، لا تعقيده.
يقول أحد منظّري السرد الرقمي: “حين تعرف القصة جمهورها أكثر مما تعرف شخصياتها، تبدأ في فقدان روحها.” لأن الشخصيات، في النهاية، ليست بيانات، بل تناقضات.

اختفاء النهاية بوصفها حدثًا
النهاية، في السرد الكلاسيكي، كانت لحظة كشف. لحظة يتغيّر فيها فهمنا لما سبق. أما في القصة التنبؤية، فالنهاية مؤجَّلة دائمًا. لأن الإغلاق يعني التوقّف، والتوقّف يعني خسارة التفاعل. لذلك، تُستبدل النهاية بسلسلة احتمالات مفتوحة. القصة لا تنتهي، بل تستمر إلى أن ينخفض الأداء.
وهكذا، لا يعود السرد رحلة، بل خدمة. لا يُقدَّم ليُكمل، بل ليُستهلك. ومع اختفاء النهاية، يختفي المعنى الذي كان يتكوّن من التراكم، من الانتظار، من الإغلاق.
هل نخسر الإنسان داخل القصة؟
القصة التنبؤية تُتقن محاكاة الانفعال، لكنها تفتقد التجربة. هي تعرف متى تحزن الشخصية، لكنها لا تعرف لماذا. تعرف متى يموت البطل، لكنها لا تعرف ما الذي كان يمكن أن يختاره لو لم يكن محكومًا بالنموذج. الإنسان، في هذا السرد، يتحوّل إلى وظيفة داخل مخطط.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار جاذبية هذا الشكل. هو سريع، متكيّف، ومصمَّم ليُرضي. لكنه يُرضي على حساب شيء أعمق: ذلك الشعور بأن القصة كُتبت لأن أحدهم كان عليه أن يكتبها، لا لأن النظام رجّح نجاحها.

قصة رقمية تتفرّع إلى مسارات متوقعة بلا مركز واضح
هل هذه نهاية السرد فعلًا؟
ربما هي نهاية شكل، لا نهاية الجوهر. السرد التنبؤي قد يهيمن على المنصات، لكنه لن يُلغي الحاجة إلى الحكاية غير المحسوبة. تلك التي تُربك، وتُفشل، وتُخالف التوقع. الإنسان، مهما استمتع بالقصص التي تشبهه، سيظل يبحث عن قصة تكشف له ما لم يكن يعرفه عن نفسه.
السرد الحقيقي لا يُنبئ فقط بما سيحدث، بل يغيّرنا ونحن نتابعه. وهذه القدرة لا تزال عصيّة على النماذج، لأنها لا تعيش الزمن، بل تحسبه.
هل القصة التنبؤية تلغي دور الكاتب؟
لا تلغيه، لكنها تضغطه داخل إطار أداء وتوقع.
لماذا تنجح هذه القصص جماهيريًا؟
لأنها مصممة لتناسب التفضيلات وتقلّل المفاجأة.
ما الفرق الجوهري بينها وبين السرد التقليدي؟
السرد التقليدي يغامر بالمعنى، والتنبؤي يغامر بالوقت فقط.
هل يمكن الجمع بين الشكلين؟
نعم، إذا استُخدمت البيانات كمرشد لا كمخرج نهائي.
هل سيعود السرد الكلاسيكي؟
قد لا يعود مهيمنًا، لكنه سيبقى ملاذًا لمن يبحث عن تجربة كاملة.
في النهاية، ليست المشكلة أن تتوقّع القصة ما نريده، بل أن تكفّ عن اقتراح ما لم نكن نعرف أننا نحتاجه. حين يتحوّل السرد إلى تنبؤ خالص، نفقد تلك اللحظة النادرة التي تُفاجئنا فيها الحكاية بأننا لسنا كما كنا نظن. وهناك، فقط هناك، يبدأ الأدب الحقيقي.
اقرأ أيضًا: الخطاب الديني تحت عين الذكاء الاصطناعي








