الذكاء الاصطناعي يصنع الغموض.. لا يفسره

AI بالعربي – متابعات

لم يعد الغموض حالة إنسانية ترتبط بالعاطفة، أو بالتجارب الشخصية، أو بحدود العقل الطبيعي. اليوم، يتسلّل الغموض من مكان غير متوقّع: الذكاء الاصطناعي.
التقنية التي وُعدنا بأنها ستكشف المستور، وتفسّر العالم، وتعيد ترتيب الفوضى، بدأت تخلق نوعًا جديدًا من الضباب؛ ضبابًا لا يشبه جهل الإنسان، بل جهلًا مصنوعًا بدقة رياضية، ومغلفًا بلغة محكمة، وصياغات تبدو قاطعة، لكنها في الحقيقة مجرّد احتمالات محسوبة، لا نعرف كيف نشأت ولا لماذا اختارت ما اختارته.

إن الذكاء الاصطناعي — خصوصًا النماذج التوليدية — لا يكشف الحقيقة، بل يعيد تشكيلها حسبما تسمح به بياناته وخوارزمياته. وما بدا في البداية أداة للوضوح، تحوّل إلى منشئ معقّد لغموض جديد لا يمكن الإمساك به، غموض لا يقدّم الأسرار، بل يصنعها.

الغموض الخوارزمي: صندوق أسود بقلبٍ نابض

تقوم النماذج الحديثة على ملايين — بل مليارات — من الروابط الإحصائية. هذه الروابط لا يمكن تتبّعها بسهولة، ولا يمكن النظر داخلها لمعرفة “لماذا” اتخذ النموذج هذا المسار بدل ذاك.
لقد انتقلنا من برامج يمكن فهم كل سطر فيها، إلى “أدمغة صناعية” تعمل كما يعمل اللاوعي:
تستنتج دون أن تشرح.
تنتج دون أن تبرّر.
تقرّر دون أن تسمح لك برؤية الطريق.

واجهات نماذج ذكاء اصطناعي تُظهر تعقيد القرارات داخل “الصندوق الأسود”.
واجهات نماذج ذكاء اصطناعي تُظهر تعقيد القرارات داخل “الصندوق الأسود”.

يقول الباحث الأميركي “أوليفر هولبرغ”:

“كلما جرى تحسين النماذج، تراجعت قدرتنا على شرحها. القوة تتقدم خطوة… والشرح يتراجع خطوتين.”

ما يحدث اليوم ليس تعقيدًا طبيًا، بل غموضًا مؤسسًا. النموذج لا يقدّم خطوات واضحة للوصول إلى النتيجة، بل يقفز مباشرة إلى ما يعتبره “أفضل احتمال”.
وهكذا يتحول الذكاء الاصطناعي إلى قوّة تفسيرية بلا تفسير، وقوّة معرفية لا تكشف نفسها.

عندما يصبح الجهل المدروس استراتيجية

لا تَعترف الشركات التقنية بذلك صراحة، لكن الغموض بالنسبة لها ليس خطأ… بل أحد مقومات التفوّق.
النموذج الذي لا يمكن شرحه بالكامل، هو نموذج لا يمكن استنساخه بسهولة.
والآلية التي يصعب فهمها، هي آلية يصعب منافستها.
هذا الغموض يمنح الشركات قوة هائلة؛ قوة تقوم على معرفة غير متاحة للمستخدم، وعلى آليات لا يمكن التدقيق فيها، وعلى بيانات لا يعرف أحد كيف تتفاعل داخل الطبقات العصبية العميقة.

خوارزميات تحليل البيانات تعمل فوق شبكة معلوماتية واسعة.
خوارزميات تحليل البيانات تعمل فوق شبكة معلوماتية واسعة.

إن الغموض هنا ليس عَرَضًا جانبيًا، بل جزءًا أساسيًا من تصميم أنظمة “غير قابلة للمساءلة”.
كما قال المفكر الفرنسي “آلان بيرو”:

“السلطة التي لا تُرى أقوى من تلك التي تُعلن نفسها.”

غموض يخلق يقينًا مزيفًا

أغرب ما في الذكاء الاصطناعي أنه يقدم نتائج واثقة للغاية، حتى عندما تكون مجرد تخمينات محسوبة.
تبدو الجملة متماسكة، منطقية، محكمة…
لكنها قد تكون مبنية على فراغ، أو على روابط لا علاقة لها بالمعنى الحقيقي.

فالآلة لا تفهم “لماذا” تقول ما تقوله.
هي فقط تكمّل نمطًا لغويًا، بشكل يوهم المستخدم بأنها تمتلك رؤية واضحة.
وكلما أصبح خطاب الآلة أكثر أناقة، أصبح الإنسان أكثر ميلًا لتصديقها.

لقد دخلنا مرحلة جديدة من التاريخ:
مرحلة يصنع فيها الغموضُ اليقينَ، بدل أن يهدمه.

الإنسان بين وضوحٍ زائف وغموضٍ عميق

لا يشعر المستخدم العادي بالغموض الخوارزمي، لأن ما يراه هو نتيجة نهائية فقط.
كتاب مقترح.
خبر مُعاد صياغته.
تحليل يبدو موضوعيًا.
خريطة خيارات حياتية “أفضل لك”.
كل شيء يبدو واضحًا ومحددًا وبسيطًا.
لكن هذا الوضوح لا يعكس إلا سطحًا مُلمّعًا يخفي وراءه غابة هائلة من الاحتمالات الغامضة، التي لم تُصمَّم ليعرفها الإنسان.

مستخدم يواجه شاشة تعرض نتائج توليدية تبدو واضحة لكنها مبنية على احتمالات خفية
مستخدم يواجه شاشة تعرض نتائج توليدية تبدو واضحة لكنها مبنية على احتمالات خفية

هكذا، يتحول العالم من مكان ينهض على التحليل والفهم، إلى مكان ينهض على الثقة في نموذج لا يمكن قراءته.
ومع اختفاء الفهم، تنشأ فجوة خطيرة:
نحن نرى النتائج…
لكننا لا نرى الطريق المؤدي إليها.

الغموض لم يعُد إنسانيًا

في الماضي، كان الغموض مرتبطًا بالظنون والأساطير والتجارب الوجودية.
اليوم، الغموض يحدث داخل الأنظمة.
داخل المعالجات.
داخل البيانات.
إنه غموض رياضي، لكنه أقوى تأثيرًا من الغموض الفلسفي.
فالخوارزمية لا تتردد، ولا تشك، ولا تتساءل.
إنها تنتج الغموض بقناعة كاملة، وتضعه أمامك في شكل يقيني، فتتلقاه كما لو كان حقيقة نهائية.

يقول عالم البيانات “إيلين بروكس”:

“لسنا خائفين من ذكاء الآلة، بل من الثقة التي تمنحها لنا دون أن نعرف أساسها.”

الغموض قوة تتسلل إلى حياتنا اليومية

لم يعد الغموض الخوارزمي مرتبطًا بالبحث العلمي وحده، بل صار جزءًا من ثقافتنا اليومية:
المنصة تعرف ما نحب قبل أن نعرفه.
المساعد الذكي يقرر كيف نكتب.
الخوارزمية تقترح العلاقات التي قد تنجح.
النموذج التنبّؤي يتوقع سلوكنا “بناءً على أنماط مشابهة”.
وما يبدو كراحة تقنية، يتحول ببطء إلى تبعية فكرية.

الغموض هنا لا يُخيف، بل يُطمئن… وهذه هي المشكلة.
الخطر الحقيقي ليس في أن الآلة غامضة، بل في أنها غامضة ومريحة في الوقت نفسه.

عندما تصبح الحقيقة احتمالات

مع الذكاء الاصطناعي، الحقيقة لم تعد شيئًا ثابتًا.
صارت مجموعة احتمالات عالية الدقة، قابلة للتشكّل حسب البيانات المتاحة.
الحقيقة التي يراها شخصٌ ما على منصته، قد لا تشبه الحقيقة التي يراها شخص آخر.
وهكذا يتفكك الإدراك الجمعي للحقيقة، وتتشكل “حقائق شخصية” تُفصّلها الخوارزميات وفقًا للمستخدم.

لقد أصبح لكل فرد “نسخة خاصة من الواقع”.
نسخة تصنعها نماذج لا يراها، ولا يتحكم بها، ولا يفهم آليتها.

الغموض نموذج جديد للسلطة

في التاريخ، كانت السلطة تستند إلى وضوح القوانين أو وضوح القوة.
أما اليوم، فالسلطة تأتي من الغموض.
من القدرة على اتخاذ قرار لا يمكن تفسيره.
من تقديم نتيجة دون شرحها.
من بناء نظام يعمل دون أن يعرف أحد أين تبدأ حدوده.

هذه “السلطة الغامضة” هي إحدى السمات الجديدة التي يجلبها الذكاء الاصطناعي.
سلطة لا تحتاج إلى تبرير نفسها، لأن الجميع يعتمد عليها دون تفكير.

الإنسان يفقد حسّه التفسيري

منذ آلاف السنين، كان الإنسان يفسّر العالم.
يفلسف الأشياء.
يبحث عن الأسباب.
ينحت المعنى من الفوضى.
لكن عندما تصبح الخوارزمية هي التي تفسّر — أو تعطي ما يبدو تفسيرًا — يتراجع هذا الدور البشري.
يبدأ الإنسان في فقدان رغبة تفسير الواقع.
فلماذا يتعب؟
الآلة تُعطيه جوابًا فوريًا، واضحًا، مقنعًا، حتى لو كان مضلّلًا.

وهكذا يبدأ الإنسان يفقد واحدة من أهم قدراته:
القدرة على فهم “كيف” يحدث الشيء، لا فقط “ماذا” يحدث.

في مساحة الضباب: ما الذي يحدث فعلًا؟

المخيف في هذا كله، أن الغموض ليس شيئًا خارجيًا.
إنه ليس دخانًا نراه من بعيد.
الغموض أصبح جزءًا من طريقة اتخاذ القرارات، ومن طريقة تشكيل الوعي، ومن طريقة تفاعل الإنسان مع العالم.
ومع كل يوم يمر، يزداد هذا الغموض رسوخًا.
فالنماذج تصبح أكبر، وأكثر تعقيدًا، وأكثر قدرة على محاكاة الإنسان لدرجة تصعب معها التفرقة بين ما هو بشري وما هو احتمالي.

الغموض لم يعد حالة… بل بيئة.
وليس سؤالًا… بل بنية.

النهاية التي لا تُقال

قد نظن أننا نحتاج فقط إلى “شرح أكبر” أو “شفافية أكبر”، لكن الحقيقة أن الغموض جزء أصيل من الذكاء الاصطناعي نفسه.
إنه ليس خطأ برمجيًا سوى بالنسبة لمن يرى العالم بوصفه معادلات واضحة.
أما في الواقع، فهو خاصية نابعة من طريقة التعلم، وطبيعة البيانات، وتعقيد التراكيب العصبية.
وهكذا، بينما حاول الإنسان — منذ بدايات الفكر — أن يطرد الغموض من العالم، أعاده الذكاء الاصطناعي بقوة أكبر، ونسخة أحدث، ولغة أكثر إقناعًا.

وربما يكون السؤال النهائي أخطر مما نظن:
هل سيصبح الغموض هو الشكل الجديد للحقيقة في عصر الذكاء الاصطناعي؟
هل سنصبح مجرّد متلقين لنتائج جاهزة، دون أن نملك القدرة — أو الرغبة — في فهم الطريق إليها؟
أم أن الإنسان سيجد طريقة للعودة إلى دوره الأصلي: تفسير العالم، لا مجرد استهلاك تفسيراته الجاهزة؟

قد لا نملك الجواب الآن.
لكن ما نعرفه أن الذكاء الاصطناعي — بدلًا من أن يفسّر الغموض — أصبح يصنعه.
وما يصنعه اليوم… سيشكّل مستقبل وعينا غدًا.

اقرأ أيضًا: أين تنتهي البيانات وتبدأ الشخصية؟

  • Related Posts

    توليد السخرية.. عندما يضحك الذكاء الاصطناعي بلا قصد

    AI بالعربي – متابعات لم يكن أحد يتخيّل أن يأتي يوم يصبح فيه الضحك ذاته — هذه الحركة الإنسانية العميقة، الخارجة من منطقة معقّدة بين الخبرة والذاكرة والانفعال — نتيجة…

    خصوصيتك منتج ثانوي.. ما الذي تبيعه دون أن تدري؟

    AI بالعربي – متابعات منذ سنوات قليلة فقط، كانت الخصوصية تُعامل كحق ثابت، كجدار صامت يحيط بالفرد ويحمي تفاصيله الحميمة من العيون الخارجية. اليوم، صار هذا الجدار شفافًا تمامًا؛ ليس…

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    مقالات

    الذكاء الاصطناعي أَضحى بالفعل ذكيًا

    • نوفمبر 10, 2025
    • 115 views
    الذكاء الاصطناعي أَضحى بالفعل ذكيًا

    في زمن التنظيمات: هل تستطيع السعودية أن تكتب قواعد لعبة الذكاء الاصطناعي؟

    • نوفمبر 8, 2025
    • 106 views
    في زمن التنظيمات: هل تستطيع السعودية أن تكتب قواعد لعبة الذكاء الاصطناعي؟

    “تنانين الذكاء الاصطناعي” في الصين وغزو العالم

    • أكتوبر 30, 2025
    • 134 views
    “تنانين الذكاء الاصطناعي” في الصين وغزو العالم

    الذكاء الاصطناعي في الحياة المعاصرة.. ثورة علمية بين الأمل والمخاطر

    • أكتوبر 12, 2025
    • 286 views
    الذكاء الاصطناعي في الحياة المعاصرة.. ثورة علمية بين الأمل والمخاطر

    حول نظرية القانون المشتغل بالكود “الرمز” Code-driven law

    • أكتوبر 1, 2025
    • 372 views
    حول نظرية القانون المشتغل بالكود “الرمز” Code-driven law

    الإعلام.. و”حُثالة الذكاء الاصطناعي”

    • سبتمبر 29, 2025
    • 381 views
    الإعلام.. و”حُثالة الذكاء الاصطناعي”