AI بالعربي – متابعات
في الشوارع العربية، في البيوت، في المقاهي والأسواق، كانت تُقال جمل لا تشبه ما يُكتب في الإنترنت العالمي؛ جمل تنتمي للناس، لحيواتهم اليومية، لحكايات جداتهم ولهجاتهم ونكاتهم التي لا يفهمها إلا أبناء المنطقة ذاتها. كل هذا كان يشكّل طبقة كثيفة من الذاكرة الحية، طبقة كانت تمنح اللغة نكهتها، وتمنح الثقافة ملمسها الحقيقي.
اليوم، يحدث تبخر بطيء… المحتوى المحلي يتلاشى. ليس لأن الناس توقفت عن الكلام، بل لأن الآلة التي تنتج أغلب محتوى الإنترنت صارت تميل نحو ما هو عالمي، موحد، قابل للانتشار، ومجرّد من الجوهر المحلي.
يقول الباحث المغربي عبدالواحد المرابط:
“الثقافة لا تموت دفعة واحدة، بل تبهت عندما تُستبدل طبقة بعد طبقة.”
النموذج العالمي: آلة تمحو التفاصيل الصغيرة
النماذج الضخمة للذكاء الاصطناعي تتغذى على محتوى عالمي لا يعبّر عن اللهجات العربية، ولا عن صور الحياة اليومية في مدننا. وعندما تطلب منها كتابة قصة باللهجة المصرية أو الخليجية أو الشامية، فهي لا تعود إلى ذاكرة الناس، بل إلى “تمثيلات رقمية” محدودة ومشوّهة تمثل تلك اللهجات.
لذلك يبدو المحتوى المحلي الذي تولده النماذج مثل شخص أجنبي يحاول تقليد لهجة عربية: الجملة مفهومة… لكن النبرة غائبة.

تحوّل السوق إلى عالمية قسرية
المنصات الرقمية لا تفضّل المحتوى المحلي؛ فهي تبني قراراتها على قابلية الانتشار. والكلمات المحلية، الساخرة والمباشرة والعفوية، تُترجم تقنيًا إلى “نص محدود الاستخدام”، وبالتالي يُقلّل ظهورها لصالح نصوص عالمية، ناعمة الحواف، موحدة النبرة.
وهكذا يُضطر الكاتب العربي إلى تبني أسلوب ليس أسلوبه، ولغة ليست لغته، فقط ليمنحه النظام الخوارزمي فرصة في الظهور.
يقول الباحث الإعلامي سليم حداد:
“عندما تصبح كل كتابة محاولة لإرضاء الخوارزمية، فإن الثقافة الحقيقية تنسحب إلى الظل.”
الانقراض الصامت للذاكرة الشعبية
قبل سنوات، كانت المنتديات والتدوينات المحلية تساعد على حفظ جزء من الذاكرة العربية: القصص العائلية، حكايات الجدات، الأمثال الشعبية، التعابير الخاصة بكل مدينة.
اليوم، هذه الذاكرة لا تُعاد كتابتها بواسطة الذكاء الاصطناعي، ولا تدخل في بيانات التدريب، ولا تُستنسخ في مقاطع الفيديو القصيرة أو منشورات المحتوى السريع. ومع الوقت، كل ما لا يُعاد إنتاجه… يختفي.
الآلة تكتب اليوم بلغة “مدرسية”، أنيقة ومنظمة، لكنها بلا نكهة. أمّا المحتوى الشعبي، الذي كان ينمو بطريقة طبيعية، فيتعرّض لانقراض رقمي صامت.

المنصات تعيد تشكيل الهوية دون قصد
ملايين العرب يستهلكون، يوميًا، محتوى كُتب أو أعيد صياغته بواسطة الذكاء الاصطناعي. ومع تكرار الاستهلاك، يبدأ القارئ في التفاعل مع جمل لا تشبه بيئته، ولا لغته، ولا طريقة كلام الناس من حوله.
تتراجع اللهجات لصالح فصحى هجينة — ليست تراثية، وليست حداثية، بل فصحى وظيفية مصممة لتكون “مفهومة للخوارزمية”.
ومع تغيّر اللغة، تتبدل الذاكرة. ومع تبدل الذاكرة، تتغير الهوية نفسها.
لماذا تختفي الشخصيات المحلية من الأعمال الرقمية؟
في القصص التي ينتجها الذكاء الاصطناعي، نادرًا ما نرى الأم الخليجية، أو الجد المصري، أو الشاب المغربي، أو المرأة الشامية بطبقات صوتها الحقيقية.
النماذج تنتج “قوالب”، لا “شخصيات”.
قوالب مسطّحة تنتمي إلى عالم موحّد، عالم بلا شوارع، بلا مقاهٍ قديمة، بلا نبرة خاصة، بلا تاريخ صغير يخص أصحاب المكان.
بهذه الطريقة، تتبخر التفاصيل التي تمنح الشخصيات أصالتها، ليحلّ محلها شيء يشبه الجميع… ولا ينتمي لأحد.

المحتوى العالمي ليس محايدًا
الذكاء الاصطناعي لا يقدّم محتوى محايدًا كما يُقال، بل يعكس مراكز القوة الثقافية في العالم.
إنه يعيد إنتاج رؤى اجتماعية وأخلاقية ومعرفية مستوردة بالكامل، ثم يصدّرها على أنها “النموذج”.
وفجأة، تصبح الحلول التي يقدمها لك الذكاء الاصطناعي مبنية على تصور أوروبي أو أميركي للحياة.
أما الممارسات العربية، والعلاقات العائلية، والسياقات الاجتماعية المختلفة… فلا تجد مكانًا داخل هذا العالم المولَّد.
وهذا أحد أخطر أشكال التآكل الثقافي: تآكل غير صاخب، غير معلن، لكنه عميق ومتراكم.
هل يمكن إنقاذ ما تبقى؟
الحفاظ على المحتوى المحلي ليس معركة ضد التكنولوجيا، بل ضد الضياع. ويمكن تحقيق ذلك عبر خطوات أساسية:
إنتاج نماذج لغوية عربية تتغذى على البيانات الشعبية الحقيقية، لا على النصوص الرسمية فقط.
تشجيع الكتابة الذاتية الأصيلة، باعتبارها مقاومة ثقافية.
إنشاء أرشيف رقمي للهجات، والأغاني التراثية، والحكايات الشعبية، حتى لا تضيع تفاصيل المدن والقرى بين موجات المحتوى العالمي.
ماذا سنترك لأبنائنا؟
إذا استمر التبخر، سينشأ الأطفال العرب في عالم لا يشبههم. سيقرأون نصوصًا لا تتحدث بلسانهم، ولا تشبه شوارعهم، ولا تشبه البيوت التي كبروا داخلها.
ستصبح القصص بلا رائحة المكان، وستصبح اللغة بلا طين، وسيتحول الخيال إلى نسخة مسطّحة من خيال الآخرين.
الذكاء الاصطناعي ليس خصمًا، لكنه يحتاج إلى ذاكرة. وإن لم نضع ذاكرتنا فيه، فسيمتلئ بذاكرة غيرنا.
وعندها لن يتبخر المحتوى المحلي فقط…
بل ستتبخر الروح التي تجعلنا نحن، بكل اختلافاتنا ولهجاتنا وألواننا وثقافات مدننا المتعددة.
اقرأ أيضًا: عندما يخاطبك الجهاز وكأنك لست إنسانًا








