حكم التكنوقراط

13

توفيق السيف

أعتقد أنَّ معظم الذين شاهدوا سلسلة أفلام “الماتريكس” سيتَّخذون موقفاً معارضاً لفكرة التنظيم الدقيق الذي يروّج له أحياناً دعاة الإدارة التكنوقراطية. والسلسلة من إخراج الأختين لانا وليلي واشوفوسكي.

لا أعرف سرَّ اهتمام السيدتين بإنتاج هذه السلسلة. لكني أستطيع القول إنَّهما قدمتا صورة مرعبة، عن عالم افتراضي يعمل مثل الساعة، تسيطر عليه آلات ذكية، ويعيش البشر فيه حياة مستعارة، لا يقررون فيها أي شيء لأنفسهم “لأنَّ هناك من يفكر نيابة عنهم، وهو – لسوء الحظ – أكفأ منهم وأكثر انضباطاً”.

لعلَّ الدافع وراء مبادرة الأختين واشوفوسكي قناعتهما وقناعة الجمهور أيضاً، بأنَّ الفكرة ليست خيالية 100 في المائة. أنا وأنت وغيرنا، نعرف أناساً، ربما أقلية صغيرة، ولعلهم من الأذكياء اللامعين، يتطلَّعون إلى نظام إداري يسير مثل الآلة، فيحقق المعادلة المستحيلة: عمل كامل بأقل تكلفة.

ظهر مصطلح “التكنوقراطية” للمرة الأولى، في مقالة لوليام هنري سميث عام 1919. لكن الفكرة نفسها قديمة، وفحواها أنَّ النظام الإداري “وحتى السياسي” الأمثل، هو ذلك الذي يديره العلماء والخبراء. وخلال التطبيقات القليلة لهذا المفهوم، ظهر أنَّه شديد الخطورة، فهو يتعامل مع البشر كأدوات إنتاج، ويحدّد قيمتهم بناء على حجم إنتاجهم ونوعيته.

حين تكون القيمة السوقية لمنتجات الإنسان معياراً وحيداً لقيمته، فسوف تكون الآلة أعلى منه قدراً. وفي نهاية المطاف، قد يجد البشر أنفسهم عبيداً لآلات حقيقية أو آلات بشرية، أي بشراً يشبهون الآلات أو يفكرون مثل الآلات.

حصلت فكرة “التكنوقراطية” على رواج قصير الأمد في منتصف القرن العشرين. لكنَّها نُبذت لاحقاً، بعدما حاول جنرالات من أوروبا وأميركا اللاتينية تبنّيها كإطار فكري للتنمية السريعة، وكانوا مستعدين للتضحية بآلاف البشر أو بأحلامهم، في سبيل إنجاح التجربة.

أما الداعي لهذا الحديث اليوم، فهو ما لاحظته من انبعاث مستجد للفكرة، أي “حكومة الآلات” مع تقدم الذكاء الصناعي وإنترنت الأشياء. وكنت قد كتبت في العام الماضي، عن مخاطر التساهل في استخدام التقنية المتقدمة في مراقبة الناس والتحكم في حياتهم، وهي فكرة يجري تبريرها بالحاجة للانضباط كوسيلة لمكافحة انتشار وباء كورونا.

وخلال الأسبوع الماضي، أعلنت هيئة رسمية “لا أريد ذكرها كي لا ننشغل بالمثال عن الفكرة” أنَّها ستلزم كل التجار “أي نحو 1.3 مليون تاجر” باستعمال نظام إلكتروني لتسجيل مبيعاتهم، مع ربطه بغرفة مركزية تمكن موظفي الهيئة من المراقبة الدائمة لعمليات التجار. وقد قيل إنَّ غرض هذا النظام هو منع التستر والتهرب وغش العملاء… إلخ. ولا بد أنَّ بعض المحللين سيمتدح الخطوة للأسباب المذكورة نفسها، وربما يذكرنا آخرون بالمثل الشائع “لا تبوق ولا تخاف”.

وقد رأيت في الأعوام الثلاثة الماضية مبادرات مماثلة، أستطيع القول إنَّ تكلفتها المادية والاقتصادية والإنسانية، كانت عالية، ولم يكن لها من ناتج سوى شعور بالسعادة عند بعض مبرمجي الكومبيوتر وبعض الموظفين الأذكياء، نتيجة اقتناعهم بأنهم يملكون فعلياً أدوات الضبط والتحكم في حياة آلاف الناس.

أرى أنًَ هذا التوجه خطر جداً على الأمن النفسي للمجتمع، وعلى الإنتاجية والإبداع في مجال الاقتصاد. فوق أنَّ عائده ضئيل واقعياً، وإن بدا على الورق كبيراً ومدهشاً. آمل ألا يترك الأمر للتكنوقراط، لأنَّ حكومة الآلات ليست قابلة للحياة حتى لو بدا الحديد قوياً ومقاوماً لعوامل الطبيعة.

اترك رد

Your email address will not be published.