الذكاء الاصطناعي يغير مجريات “الدبلوماسية” ويعيد تشكيل فنون المفاوضات وصناعة القرار
AI بالعربي – متابعات
قبل نحو قرن بدأ ما يعرف بـ”نموذج الأمم المتحدة” كأداة تدريبية عملية للطلاب الراغبين في محاكاة عمل منظمة الأمم المتحدة، وذلك ضمن الأنشطة الأكاديمية في جامعاتهم.
عقود طويلة وآلاف الجامعات حول العالم، ثم انضمت إليها المدارس تعقد نماذج محاكاة ليتدرب الطلاب على كيفية المحادثات والمفاوضات واتخاذ القرارات وسن السياسات، وتوسعت الفكرة لتشمل هيئات إقليمية مثل الاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية، وكذلك اجتماعات وزراء الخارجية حيث يجري الطلاب حلقات نقاش وتفاوض تحاكي ما يجري على أرض الواقع لعدة أيام على سبيل التدريب.
ينتهي اليوم الأول ويعودون ليبحثوا ويجولوا بين صفحات الكتب، ثم في دهاليز محركات البحث على الإنترنت لاستقاء مزيد من المعلومات عن العلاقات بين الدول، والصراعات بينها، وسبل حل أو تصعيد أو تخفيف الخلافات، كل بحسب الدور الموكل إليه.
الذكاء الاصطناعي مرجعًا
في العامين الماضيين، باتت أعداد متزايدة من الطلاب تعتمد على الذكاء الاصطناعي لإمدادها بسبل التفاوض وأسرار ممارسة الضغوط على ممثلي الدول الأخرى وسن السياسات واتخاذ قرارات تتعلق بمحاكاة الدبلوماسية في ورشهم واجتماعاتهم الافتراضية.
ورش الكوكب واجتماعاته الحقيقية المنعقدة خلف أبواب مغلقة لتقريب وجهات نظر هنا، أو بسط عضلات سياسية هناك، أو الوصول إلى حلول دبلوماسية ترضي جميع الأطراف بحسب موازنات القوى وحسابات المصالح في كل مكان لم تعد حكراً على السياسي الداهية والدبلوماسي الجهبذ والمؤرخ المحنك ومتخصص القانون الدولي الماكر وضابط الاستخبارات الحاذق، بل فوجئ الجميع ذات يوم بلاعب جديد على طاولة المفاوضات وقاعات الدبلوماسية اسمه الذكاء الاصطناعي.
ما يجري في قاعات الدبلوماسية وعلى طاولات المفاوضات شديد الشبه بالشطرنج، إذ تعتمد على الخداع والمراوغة، يسميها البعض احتيالاً ونصباً وافتراءً، ويراها آخرون بصيرة وذكاءً وإدراكاً.
قادم بثقة
وسواء كانت هذه أو تلك، فإن الذكاء الاصطناعي يعلن أنه قادم بثقة وسرعة ليدلو بدلوه، ويقوم بدور لم يطرأ على بال أو حسبان.
قبل أشهر قليلة، أعلنت شركة “ميتا” المالكة لـ”فيسبوك” أنها طورت برنامجها “شيشرون” بصورة جعلته يتفوق على أداء اللاعبين البشر بـ10 أضعاف في لعبة إستراتيجية اسمها “الدبلوماسية”.
“الدبلوماسية” لعبة لوحية عبارة عن مزيج من لعبة البوكر الورقية، ولعبة “مخاطرة” أو “ريسك” اللوحية، وبرنامج “الناجي” أو “Survivor” التلفزيوني، تعتمد على سبعة لاعبين يتمثل كل منهم في إحدى القوى الأوروبية عام 1901.
القوى هي، بريطانيا وألمانيا وروسيا وتركيا والنمسا، والمجر وإيطاليا وفرنسا.
ويهدف كل من اللاعبين، باعتباره ممثلًا عن قوة عظمى واحدة، إلى السيطرة على نصف لوحة اللعب “أوروبا” كحد أدنى.
وحتى يتمكن اللاعبون من الوصول إلى الهدف المرجو، ألا وهو السيطرة والهيمنة، عليهم جميعاً التفاوض والتعاون وتبادل الثقة والدعم من جهة، والتنافس من أجل السيطرة على أكبر مساحة ممكنة من جهة أخرى.
بحسب “ميتا”، تقوم أساسيات اللعبة على التحكم في غالبية الخريطة الموجودة على شاشات اللاعبين، يتفاوض اللاعبون لعقد التحالفات ويدعمون بعضهم البعض عبر المحادثات “الخاصة” بين اثنين، لا توجد اتفاقات ملزمة، لذلك يُمسح للاعبين بتحريف الخطط والخروج عليها وعقد الصفقات المزدوجة، وبعد انتهاء المفاوضات، يكتب اللاعبون التحركات التي ستُنفَذ في وقت واحد على افتراض أن الجميع يثقون في قيام الآخرين بما اتفقوا على عمله، مع العلم أن الطريقة الوحيدة للفوز هي بناء الثقة والتفوق في التفاوض، والتعاون بين اللاعبين.
“شيشرون” بالصدفة؟
غير معروف إن كان الاسم الذي اختارته “ميتا” للبرنامج “شيشرون”، الذي تفوق على اللاعبين البشر، ذا دلالة، أم جاء بمحض الصدفة، فسيرة “شيشرون” السياسية، الكاتب والخطيب الروماني المفوّه الذي ولد في مطلع القرن الثاني قبل الميلاد تظل ملتبسة ومثيرة للجدل، هل كان فيلسوفاً مثقفاً في أجواء فاسدة؟ أم كان ثرياً يعتمد على جاهه وماله؟ أم أنه كان مجرد شخصية انتهازية لا تسعى إلا وراء مصالحها الشخصية ومكتسباتها المادية؟
على أية حال، انتهى الحال بـ”شيشرون” بأن أصدر القنصل الروماني مارك أنطونيو قراراً بقطع رأسه، عقاباً له على مهاجمته القنصل في خطبه السياسية، واعتراضه الدائم على خطواته الدبلوماسية.
يراوغ كالبشر
الطريف واللافت أنه على رغم أن “ميتا” أكدت مرارًا أن اللعبة مصممة بصورة تضمن عدم فوز أي من اللاعبين إلا في حال توافرت الثقة والدعم بين الجميع، ولم يطعن أحدهم الآخر في ظهره، أو حنث بما تم الاتفاق عليه، أو فعل عكس ما قال، إلا أن علماء مراقبين للبرامج والتطبيقات التكنولوجية يقولون إن الألعاب من هذا النوع لا تختلف كثيراً عن البشر في دهائها والتفافاتها وميلها أحياناً إلى الخيانة والكذب في سبيل الوصول إلى حلول سياسية رابحة.
بحسب دراسة “تحذيرية” أجراها عالم الحساب وعلوم المعرفة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا” الأميركي بيتر مارك، طوَّر عدد كبير من أنظمة الذكاء الاصطناعي قدراته، بصورة جعلتها تقدم معلومات خاطئة لمستخدميها من البشر عن عمد. ويشير مارك إلى أن بعض هذه الأنظمة والتطبيقات أتقن فن الخداع.
وعلى رغم ما أشار إليه مارك من أن أسباب لجوء بعض برامج وتطبيقات الذكاء الاصطناعي إلى الخداع والكذب تظل غير معروفة، فإنه يعتقد أنه نشأ لسبب بسيط ويمكن للبشر أن يفهموه جيداً من منطلق الخبرات الحقيقية، وقال “يعتقد أن خداع الذكاء الاصطناعي ينشأ لأن يتبين أن الإستراتيجيات التي تقوم على الخداع أفضل طريقة للأداء الجيد التي تضمن للبرنامج أو التطبيق أن يؤدي مهمته المحددة، بصورة مبسّطة، الخداع يساعد على تحقيق الهدف بصورة أسرع وأكثر كفاءة”.
خريطة الصراعات
نظرة سريعة إلى خريطة العالم السياسية والأمنية والإستراتيجية الحالية تستدعي التفكير الجدي في الاستعانة بلاعبين مؤثرين جدد، إذ ربما ينجحون في ما تعثر فيه البشر.
توسع رقعة المعارك والصراعات المسلحة، وتفاقم أعداد النازحين واللاجئين، وتفاقم الحروب التجارية والاقتصادية والسياسية، وانكماش مساحات الحوار، واتساع ساحات الصدام، وغيرها تهيمن على خريطة الكوكب، ولا تبدو آفاق الحلول قريبة أو احتمالات النجاة منتظَرة في نهاية نفق الصراعات، لذلك تبدو مقاربات الذكاء الاصطناعي والدبلوماسية وكأنها طوق نجاة حتى إشعار آخر.
إشعار مبكر نسبيًا قدمه “تشاتام هاوس” أو “المعهد الدولي للشؤون الملكية” “مؤسسة بحثية بريطانية” وذلك في ورقة عنوانها “الذكاء الاصطناعي والشؤون الدولية: الاضطراب متوقع” المنشورة عام 2018 والمحدثة عام 2020.
وأشارت الورقة إلى أن السياسة هي أحد أصعب الأنشطة التي يمكن أتمتتها بين كل الأنشطة والسلوكيات البشرية.”السياسة باعتبارها آلية موازنة الأهداف المتنافسة، عملية معقدة بطبيعتها، وتعكس مدى تعقيد السلوك البشري على المستوى الفردي والجماعي، لا سيما حين يتعلق الأمر بالعلاقات الدولية”.
وزير خارجية روبوت؟
وعلى رغم ترجيح الورقة عدم الاستغناء عن البشر سياسيًا ودبلوماسيًا في المستقبل القريب، والاستعانة بدلاً منهم بالذكاء الاصطناعي بصورة كاملة، فإن علامات وأمارات اللجوء إلى الآلات في السياسة والدبلوماسية وإدارة الحروب والصراعات والسلام، تلوح في الأفق، ومنها ما دخل حيّز التنفيذ بالفعل.
تشير الورقة إلى استبعاد قرب وجود رئيس دولة روبوت أو وزير خارجية آلي في المستقبل القريب، لكن هذا لا يعني أن الذكاء الاصطناعي لن يؤثر في السياسة الدولية بطرق شتى.
ويتوقع أن تتجلى هذه التأثيرات في تغيرات تطرأ على طريقة البشر من الساسة والدبلوماسيين في اتخاذ القرارات، وليس تكليف الذكاء الاصطناعي باتخاذ القرار، وهذا سيحتاج إلى حكمة وسرعة واستعداد بشري للتعامل الأمثل مع تعاظم دور الذكاء الاصطناعي في السياسة والدبلوماسية على مستوى العالم.
قال عن نفسه
“الذكاء الاصطناعي” نفسه أفاد بالمعلومات التالية في إطار شرحه عن دوره في الدبلوماسية “أصبح الذكاء الاصطناعي يُستخدم بصورة كبيرة لمساعدة الساسة والدبلوماسيين على اتخاذ قرارات مستنيرة ومواجهة التحديات بصورة أكثر فاعلية، وأبرز الاستخدامات في الدبلوماسية هي، تحليل البيانات إذ يمكن له أن يعالج ويحلل البيانات الواردة من البعثات الدبلوماسية، مثل التقارير والاتصالات والاستخبارات المفتوحة المصدر، والتحليلات التنبؤية فيحلل البيانات التاريخية في ضوء الاتجاهات الحالي للخروج بنتائج محتملة للتحركات الدبلوماسية والأحداث الجيوسياسية.
كما يمكن للذكاء الاصطناعي أن يؤتمت المهمات الدبلوماسية الروتينية، مما يتيح للدبلوماسيين خصخصة قدر أوفر من الجهد والتركيز للعمل السياسي والإستراتيجي.
ويملك الذكاء الاصطناعي القدرة على المساعدة في إدارة الأزمات عبر تحديد المواضيع الأكثر أهمية، وكذلك شبكات المصالح والتأثير، وتنسيق المشاركة لتوجيه الاستجابات السياسية وردود الفعل الرسمية تجاه الأزمة، كما يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعد في تخطيط وتصميم الحملات الدبلوماسية بهدف مخاطبة حاجات المواطنين والتطرق إلى اهتماماتهم وأولوياتهم، كما يمكنه بكل سهولة اختبار الرسائل السياسية والدبلوماسية قبل إطلاقها، وتحليل ردود الفعل الشعبية المتوقعة عبر تحليل الأخبار وتعليقات السوشيال ميديا”.
ولا تتوقف ملكات الذكاء الاصطناعي في الدبلوماسية والسياسة عند هذا الحد، بل يقول عن نفسه إنه قادر على تحليل المشاعر المدعمة بالذكاء الاصطناعي، وهو ما شأنه أن يساعد الساسة والدبلوماسيين على فهم مكامن ومصادر السرديات الاستبدادية في المجتمعات المستهدفة، وذلك لوضعها في الحسبان أثناء سَنّ السياسات واتخاذ القرارات.
اعتماد قريب لا بعيد
يظن البعض أن الحديث عن الاعتماد أو الاستعانة بخدمات الذكاء الاصطناعي لتحديد مصائر الدول سياسيًا واتخاذ الخطوات الدبلوماسية، وكذلك الدفع من أجل السلام أو المضي قدمًا في إشعال الصراعات هو أشبه بالحديث عن مستقبل الزوج الروبوت، أو الحيوان الأليف الرقمي.
الحقيقة هي أن دولاً وأحزاباً وكيانات سياسية بدأت تجس نبض الذكاء الاصطناعي في السياسة وإدارة الأزمات، وذلك بعدما تأكدت كفاءته في ساحة المعركة، وتكبيد “العدو” أكبر كمية من الدمار والخراب والقتل بأقل تحركات فعلية على الأرض.
“الحزب الوطني الليبرالي” في كوينزلاند في أستراليا اتخذ خطوة جريئة قبل أشهر حين قرر اللجوء إلى الذكاء الاصطناعي لوضع تصور عام لأداء السياسي الأسترالي ستيفن مايلز عندما كان رئيساً لوزراء كوينزلاند.
هذه الخطوة سلطت الضوء للمرة الأولى رسمياً على الإمكانات الكامنة في الذكاء الاصطناعي في الحملات السياسية، وإن أثارت الكثير من الجدل حول مدى أخلاقيتها.
دور بات معتادًا
وتجدر الإشارة إلى أن عدداً من الحملات السياسية في دول مختلفة من العالم استخدمت الذكاء الاصطناعي لتحليل سلوك الناخبين وصياغة الرسائل السياسية المرجوة أثناء الانتخابات والحصول على محتوى مقنع يولده الذكاء الاصطناعي.
وفي هذا المحتوى تكمن معضلة كبرى لدى استخدام الذكاء الاصطناعي من قبل الدبلوماسيين والساسة، لا سيما مسائل الدفع بالأخبار الكاذبة والمعلومات المغلوطة والمفبركة لتشويه الساسة أو تجميل صورهم، وتوجيه الرأي العام بحسب المراد.
أما دور الذكاء الاصطناعي في الدبلوماسية والمفاوضات وسَن السياسات، فلا يزال في أول الطريق.