عندما يعاملك الذكاء كـ “فئة” لا “فرد”

AI بالعربي – متابعات

في اللحظة التي تشعر فيها أن المنصة “تفهمك”، غالبًا ما تكون قد دخلت بالفعل في خانة أوسع مما تتخيّل. الذكاء الاصطناعي لا يراك كما ترى نفسك: كحالة فريدة، مليئة بالتناقضات والتغيّر. هو يراك كنقطة داخل نمط، وكاحتمال داخل فئة. هنا يبدأ الالتباس الكبير بين الإحساس بالخصوصية، وواقع التصنيف.

الأنظمة الذكية لا تتعامل مع الأفراد بوصفهم ذواتًا مكتملة، بل بوصفهم تجميعات سلوكية. ما تحبّه، ما تتجاهله، ما تتفاعل معه ببطء أو بسرعة، كلها تتحول إلى إشارات تُستخدم لوضعك داخل إطار إحصائي. الإطار ليس شخصيًا، بل جماعيًا. ومع ذلك، يُقدَّم لك على أنه “مفصّل خصيصًا لك”.

وجوه متعددة تذوب داخل مخطط بيانات واحد”
وجوه متعددة تذوب داخل مخطط بيانات واحد”

من الفرد إلى العيّنة

في المنطق الخوارزمي، الفرد حالة مُكلفة. ما يمكن تعلّمه من شخص واحد محدود، لكن ما يمكن استخلاصه من آلاف يشبهونه أعلى قيمة. لذلك، تعمل النماذج على تجميع المستخدمين في فئات دقيقة: فئة تفضّل هذا النوع من العناوين، فئة تتفاعل في هذا التوقيت، فئة تستجيب لهذه النبرة.

يقول أحد الباحثين في علم البيانات الاجتماعية: “الخوارزمية لا تخطئ حين تُعمّم، لكنها تُخطئ حين نصدّق أنها تُخصّص.” التخصيص هنا هو في الحقيقة اختيار أفضل محتوى نجح مع فئتك، لا اكتشاف ما يناسبك أنت وحدك.

وهم المعاملة الخاصة

حين تقترح عليك المنصة فيلمًا أو مقالًا وتُشعرك بأنه “اختيارك المثالي”، فهي لا تستحضر ذاتك، بل تاريخ فئتك. الشعور بالاهتمام يولد من دقة التنبؤ، لا من معرفة شخصية. ومع تكرار هذا الشعور، نبدأ في إسقاط صفة الفردية على نظام لا يعرف إلا المتوسطات.

هذا الوهم مريح. أن تشعر بأنك مفهوم دون شرح، وبأن اختياراتك مُقدَّرة دون جهد. لكنه وهم يحمل ثمنًا: تقليص الذات إلى سلوك متكرر، وتجاهل ما لا يظهر في البيانات.

خوارزمية تضع مستخدمين مختلفين داخل مربع واحد”
خوارزمية تضع مستخدمين مختلفين داخل مربع واحد”

ماذا يضيع حين نُختزل إلى فئة؟

يضيع الهامش. تلك المنطقة التي لا تشبهك دائمًا، والتي تغيّر رأيك فجأة، أو تجعلك تتصرّف على غير العادة. الخوارزميات لا تحب الهامش، لأنه يربك التنبؤ. لذلك، تُكافئ الاستقرار، وتُهمّش التقلّب.

مع الوقت، قد يجد المستخدم نفسه محاطًا بمحتوى يُشبهه أكثر مما ينبغي. لا لأن العالم هكذا، بل لأن الفئة التي وُضع فيها ضاقت. وهنا يتحوّل التخصيص إلى تكرار، والتنوّع إلى استثناء نادر.

مسارات متشابهة تُرسم لمستخدمين مختلفين
مسارات متشابهة تُرسم لمستخدمين مختلفين

الراحة مقابل الحرية

المعاملة كفئة تمنح راحة. لا حاجة للشرح، لا حاجة للبحث الطويل. لكن هذه الراحة تأتي على حساب الحرية غير المتوقعة: حرية الخروج عن النمط، وحرية التناقض، وحرية التجربة دون سجلّ سابق.

حين تتعامل معك الأنظمة كفئة، فهي تفترض أنك ستتصرف كما تصرّف غيرك. وكل مرة تخالف هذا الافتراض، تحتاج إلى جهد إضافي لتُثبت اختلافك. أحيانًا، يكون أسهل أن تنسجم.

هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يعاملني كفرد؟
تقنيًا، إلى حدّ محدود، لكنه يعتمد دائمًا على المقارنة بالآخرين.

لماذا أشعر أحيانًا بأن المحتوى يكرّر نفسه؟
لأن الفئة التي وُضعت فيها ضاقت مع الوقت.

هل هذا التصنيف خطير؟
ليس بذاته، لكن خطورته في تحوّله إلى واقع غير مرئي.

كيف أستعيد بعض فرديتي؟
بكسر النمط: البحث خارج الاقتراحات، والتفاعل بوعي.

هل يمكن تصميم أنظمة تحترم الفرد أكثر؟
نعم، لكن ذلك يتطلب شفافية وتقبّلًا لعدم الدقة.

في النهاية، الذكاء الاصطناعي لا يقصد إلغاء فرديتك، لكنه لا يستطيع رؤيتها كاملة. هو يرى ما يتكرر، لا ما يتفرّد. وبين فئة تُدار بكفاءة، وفرد يطمح إلى أن يُرى كما هو، تنشأ فجوة صغيرة لكنها مؤثرة. السؤال ليس هل تُصنَّف، بل هل تترك لهذا التصنيف أن يعرّفك بالكامل، أم تحتفظ بمسافة تسمح لك بأن تكون أكثر من مجرد احتمال داخل نموذج.

اقرأ أيضًا: التبسيط المُفرط كمخدر ثقافي

  • Related Posts

    المحادثات الفارغة تصبح جذابة.. الذكاء الاصطناعي يضبط المزاج

    AI بالعربي – متابعات لم تعد المحادثة الرقمية وسيلة لتبادل المعلومات فقط، بل تحوّلت في السنوات الأخيرة إلى مساحة لإدارة الشعور ذاته. في عالم تتكاثر فيه المنصات الذكية، لم يعد…

    المحتوى المولّد يتحرّك بسرعة الشائعة

    AI بالعربي – متابعات لم تعد الشائعة، في عصر الذكاء الاصطناعي، حادثة عارضة أو انحرافًا طارئًا في تدفّق المعلومات، بل تحوّلت إلى نموذج حركة. ما كان ينتشر قديمًا بفعل الهمس…

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    مقالات

    الذكاء الاصطناعي يشكل اقتصاداتنا.. ما النتائج؟

    • نوفمبر 29, 2025
    • 134 views
    الذكاء الاصطناعي يشكل اقتصاداتنا.. ما النتائج؟

    الذكاء الاصطناعي يؤجج حرب التضليل الإعلامي

    • نوفمبر 22, 2025
    • 179 views
    الذكاء الاصطناعي يؤجج حرب التضليل الإعلامي

    الذكاء الاصطناعي أَضحى بالفعل ذكيًا

    • نوفمبر 10, 2025
    • 260 views
    الذكاء الاصطناعي أَضحى بالفعل ذكيًا

    في زمن التنظيمات: هل تستطيع السعودية أن تكتب قواعد لعبة الذكاء الاصطناعي؟

    • نوفمبر 8, 2025
    • 264 views
    في زمن التنظيمات: هل تستطيع السعودية أن تكتب قواعد لعبة الذكاء الاصطناعي؟

    “تنانين الذكاء الاصطناعي” في الصين وغزو العالم

    • أكتوبر 30, 2025
    • 286 views
    “تنانين الذكاء الاصطناعي” في الصين وغزو العالم

    الذكاء الاصطناعي في الحياة المعاصرة.. ثورة علمية بين الأمل والمخاطر

    • أكتوبر 12, 2025
    • 425 views
    الذكاء الاصطناعي في الحياة المعاصرة.. ثورة علمية بين الأمل والمخاطر