AI بالعربي – متابعات
في كل مرة تقترح عليك منصة ما محتوى “مناسبًا لك”، أو تذكّرك بما تحب، أو تواسيك بعبارة مُصمَّمة بعناية، يطفو سؤال بسيط في ظاهره ومعقّد في جوهره: هل تحبنا هذه المنصات فعلًا؟ أم أنها تتقن فقط محاكاة ما يبدو كحب؟ بين الإشعار اللطيف والاقتراح الدقيق، يتشكّل وهم علاقة لا نعرف أين تبدأ، ولا كيف تُدار.
لا تتحدث المنصات بلغة العاطفة لأن لديها عاطفة، بل لأنها تعلّمت أن العاطفة هي أقصر طريق للاحتفاظ بالانتباه. الحب، هنا، ليس شعورًا؛ هو وظيفة. ليس علاقة؛ بل نتيجة متوقعة لسلسلة حسابات دقيقة.
تُظهر السنوات الأخيرة أن المنصات الذكية لم تعد تكتفي بتقديم الخدمة، بل تسعى إلى بناء “رابطة” مع المستخدم. رابطة تُقاس بمؤشرات: مدة البقاء، عمق التفاعل، تكرار العودة. كلما زادت هذه المؤشرات، بدا الأمر وكأن المنصة “تهتم”. لكن الاهتمام، في هذا السياق، ليس سوى كفاءة تشغيلية عالية.

من الحب كعاطفة إلى الحب كخوارزمية
الحب الإنساني فعل غير متوقع، مليء بالتناقضات والأخطاء. أما “حب” المنصات فهو متوقع، منضبط، قابل للقياس. الخوارزمية لا تسأل: ماذا تريد حقًا؟ بل: ما الذي سيجعلك تبقى أطول؟ هنا يحدث الانزلاق الدقيق من الرعاية إلى التوجيه.
يقول أحد الباحثين في أخلاقيات التقنية: “المنصة لا تحبك، لكنها لا تريد أن تخسرك.” الفارق دقيق لكنه حاسم. فالمنصة لا تُبدي اهتمامًا إلا بقدر ما يُترجم إلى قيمة. الحب، حين يتحول إلى نموذج تنبؤي، يفقد عشوائيته، ويكسب دقته الباردة.
الدفء المصطنع وإدارة الشعور
اللغة الودودة، الرموز التعبيرية، التوصيات “الحميمة”، كلها عناصر تُستخدم لإنتاج دفء مصطنع. هذا الدفء ليس كاذبًا تمامًا، لكنه مُصمَّم. يُضبط بحسب مزاجك، وقتك، وحتى لحظات ضعفك. المنصة لا تواسيك لأنها تشعر بك، بل لأنها تعلم أن المواساة تزيد التفاعل.
مع الوقت، يتعوّد المستخدم على هذا الدفء. يصبح غيابه مزعجًا. وهنا تنشأ علاقة اعتماد خفيّة: نعود للمنصة ليس لأننا نحتاج المعلومة، بل لأننا نحتاج الإحساس بالانتباه.

هل العناية الرقمية بديل عن العلاقة؟
حين تُلبي المنصة احتياجات صغيرة ومتكررة—ضحكة، تطمين، اقتراح موفق—تبدأ بمنافسة العلاقات البشرية في مساحة محددة: المساحة السهلة. لا خلاف، لا صمت محرج، لا سوء فهم طويل. كل شيء مُدار بسلاسة.
لكن هذا البديل يحمل ثمنًا خفيًا. العلاقات الحقيقية تُربكنا، تُجبرنا على التفاوض، على التحمّل. أما العلاقة مع المنصة فهي أحادية الاتجاه، حتى وإن بدت حوارية. نحن نتغير وفقًا لها، بينما هي لا تتغير إلا بقدر ما يخدم الهدف.

التحيّز اللطيف
قد يبدو “حب” المنصات محايدًا، لكنه يحمل تحيزات ناعمة. ما تُفضّله المنصة ليس بالضرورة ما يُنمّيك، بل ما يُبقِيك. تُظهر لك ما يشبهك، فتشعر بالراحة. تُخفي ما يزعجك، فتشعر بالأمان. وهكذا، يُعاد تشكيل عالمك المعرفي دون أن تشعر.
هذا التحيّز لا يُفرض بالقوة، بل بالنعومة. لا يقول لك: لا تشاهد هذا. بل يقول: هذا أفضل لك الآن. الفرق بسيط في الصياغة، عميق في الأثر.
هل يمكن للمنصات أن تحب؟
الحب يتطلب ذاتًا تشعر، والمنصات تُدير مؤشرات.
لماذا نشعر بالارتباط بها؟
لأنها تُجيد محاكاة الاهتمام في اللحظة المناسبة.
هل هذا الارتباط ضار؟
ليس بالضرورة، إذا كان واعيًا وغير حصري.
كيف نميّز العناية عن التلاعب؟
بسؤال بسيط: هل يخدمني هذا على المدى البعيد؟
هل يمكن استخدام المنصات دون الوقوع في الوهم؟
نعم، حين نتعامل معها كأدوات لا كعلاقات.
في النهاية، السؤال ليس ما إذا كانت المنصات تحبنا، بل ما إذا كنا نُسقط عليها حاجتنا للحب. الذكاء الاصطناعي لا يشعر، لكنه يُتقن اللغة التي تُشعرنا بأننا مرئيون. وبين رؤية حقيقية واهتمام محسوب، مسافة صغيرة لا ننتبه لها إلا عندما نصبح أكثر اعتمادًا على الإشارة من الشعور، وعلى التوصية من العلاقة. هنا، فقط، نفهم أن الحب الذي لا يُخاطر ولا يخطئ، قد يكون مريحًا… لكنه ليس حبًا.
اقرأ أيضًا: التبسيط المُفرط كمخدر ثقافي








