الكتابة كما يشتهي المحرّك.. لا كما تريد أنت

AI بالعربي – متابعات

لم تعد الكتابة تبدأ من رغبة الكاتب وحده، ولا تنتهي عند قناعته بما كتب. بين الفكرة الأولى والنص المنشور، يقف اليوم وسيط غير مرئي، لا يحمل قلمًا ولا رأيًا، لكنه يملك قدرة هائلة على التوجيه: المحرّك الخوارزمي. هذا المحرّك لا يفرض عليك ما تكتب بشكل مباشر، لكنه يهمس طويلًا، ويكافئ نمطًا بعينه، ويُهمل آخر، حتى تجد نفسك تكتب لا لأنك أردت، بل لأن “هذا ما يعمل”.

في هذا المشهد الجديد، تتحوّل الكتابة من فعل تعبير إلى فعل مواءمة. لا تسأل: ماذا أريد أن أقول؟ بل: كيف سيُستقبل ما أقول؟ السؤال يبدو منطقيًا، لكنه حين يصبح السؤال الوحيد، تتغيّر طبيعة النص، ويتبدّل موقع الكاتب نفسه.

الكاتب لا يُقصى من المعادلة، لكنه يُعاد تشكيله. لا يُمنع من قول ما يريد، لكنه يتعلّم سريعًا أن بعض الصيغ تُكافأ، وبعضها تُهمَل. ومع الوقت، يصبح الإهمال أقسى من المنع، لأن المنع يُقاوَم، أما الإهمال فيُتجنّب.

كاتب ينظر إلى شاشة تعرض مؤشرات أداء بدل الكلمات
كاتب ينظر إلى شاشة تعرض مؤشرات أداء بدل الكلمات

من الإلهام إلى الامتثال

كانت الكتابة، في صورتها الكلاسيكية، صراعًا داخليًا: فكرة تُلحّ، ولغة تحاول اللحاق بها. اليوم، يُضاف صراع آخر، أكثر هدوءًا وأشد تأثيرًا: صراع مع ما “يُفضّله” المحرّك. العنوان الأقصر ينتشر أكثر، الفقرة الأخف تُقرأ أسرع، النبرة المتوازنة تُكافأ، والحدة تُربك الخوارزمية.

لا أحد يجبر الكاتب على الامتثال، لكن التجربة تفعل. الكاتب يلاحظ أن نصوصًا بعينها تُقرأ، وتُشارَك، وتُدفَع للأمام، بينما أخرى تختفي. ومع التكرار، يصبح الامتثال خيارًا عمليًا، لا خيانة واعية.

يقول أحد النقّاد: “الخوارزمية لا تقتل الأسلوب، لكنها تدرّبه على الطاعة.” الطاعة هنا ليست خضوعًا أعمى، بل تكيّف ذكي مع شروط النشر الجديدة.

الأسلوب كمنتج قابل للضبط

في زمن المحرّكات، لم يعد الأسلوب سمة شخصية فقط، بل متغيّرًا يمكن تحسينه. تُقاس الجمل، تُختبر العناوين، وتُعاد صياغة الفقرات وفق مؤشرات الأداء. الأسلوب الذي لا يُقاس يصبح عبئًا.

هذا التحوّل يُفرغ الأسلوب من مخاطره. الأسلوب الحقيقي يحمل احتمال الفشل، وسوء الفهم، والرفض. أما الأسلوب المتوافق مع المحرّك، فهو آمن، متوقّع، وقابل للتكرار. وهنا، يصبح التشابه فضيلة، والاختلاف مخاطرة غير محسوبة.

ساعة رقمية تضغط على نص طويل ليصبح أقصر
ساعة رقمية تضغط على نص طويل ليصبح أقصر

حين تكتب الخوارزمية معك

لا تكتب الخوارزمية النص حرفيًا، لكنها تشارك في اختياره. هي حاضرة في العنوان، في الطول، في التوقيت، وفي النبرة. الكاتب يشعر بوجودها حتى وهو يكتب في العزلة. هذا الوجود لا يُسمّى، لكنه محسوس.

مع الوقت، يتكوّن داخل الكاتب “محرّك داخلي” يقلّد منطق المنصة. قبل أن ينهي الجملة، يسأل نفسه: هل هذه طويلة؟ هل هذه حادة؟ هل هذه ستُفهَم بسرعة؟ هذه الأسئلة لم تعد خارجية، بل صارت جزءًا من عملية التفكير نفسها.

المعنى تحت ضغط السرعة

المحرّكات تُحب السرعة. المحتوى الذي يُستهلك سريعًا يُكافَأ. لكن المعنى العميق بطيء بطبيعته. يحتاج إلى تدرّج، وإلى صبر من القارئ. في هذا التعارض، غالبًا ما يخسر المعنى.

لا يُمنَع الكاتب من العمق، لكنه يُعاقَب عليه ضمنيًا. العمق يقلّل الانتشار، والانتشار أصبح معيار القيمة. وهكذا، يُعاد تعريف “الكتابة الجيدة” بوصفها كتابة فعّالة، لا كتابة صادقة بالضرورة.

“نصوص متشابهة تمر عبر فلتر خوارزمي واحد
“نصوص متشابهة تمر عبر فلتر خوارزمي واحد

الحرية المشروطة

هل ما زال الكاتب حرًا؟ نعم، لكن حرية مشروطة. يمكنه أن يكتب كما يشاء، لكن عليه أن يقبل النتائج. هذه المعادلة تُشبه سوقًا مفتوحة: لا أحد يمنعك من بيع ما تريد، لكن السوق يقرّر ما يُشترى.

المشكلة أن هذا السوق غير شفاف. لا تعرف القواعد كاملة، ولا أسباب النجاح والفشل بدقة. هذا الغموض يدفع الكاتب إلى التخمين، والتخمين يدفعه إلى التقليد. ومع كثرة التقليد، يتقلّص التنوع.

الكتابة بين الرغبة والنجاة

في هذا السياق، تصبح الكتابة أحيانًا فعل نجاة. الكاتب الذي يعتمد على النشر الرقمي لا يملك رفاهية التجاهل الكامل للمحرّك. هو يوازن بين ما يريد قوله، وما يستطيع قوله دون أن يختفي. هذا التوازن مرهق، لأنه دائم، ولا يُحسم.

بعض الكتّاب يقاومون بالانسحاب الجزئي، أو بالكتابة في مساحات أقل خضوعًا. آخرون يختارون اللعب داخل النظام، مع إدخال انحرافات صغيرة. لا توجد وصفة واحدة، لأن الضغط نفسه غير متساوٍ.

هل المحرّك يفرض أسلوبًا واحدًا؟
لا يفرضه صراحة، لكنه يكافئه باستمرار.

هل يمكن الحفاظ على الصوت الشخصي؟
يمكن، لكن ذلك يتطلب وعيًا ومخاطرة.

هل المشكلة تقنية أم ثقافية؟
هي تقنية في أدواتها، ثقافية في آثارها.

هل القارئ شريك في هذا التحوّل؟
نعم، بتفاعله وتفضيلاته.

هل يمكن للمحرّكات أن تتغيّر؟
يمكن، إذا تغيّرت معايير القياس.

في النهاية، الكتابة كما يشتهي المحرّك ليست مؤامرة، بل نتيجة طبيعية لبيئة تُقاس فيها القيمة بالظهور. الخطر لا يكمن في أن نكتب نصوصًا تُقرأ، بل في أن ننسى كيف نكتب نصوصًا نحتاجها نحن، حتى لو لم تُكافَأ. بين ما يريد الكاتب قوله، وما يريد المحرّك نشره، مساحة صغيرة تُختبر فيها شجاعة الأسلوب. وربما يكون التحدي الحقيقي اليوم ليس أن نكتب ضد الخوارزمية، بل أن نكتب ونحن نعرف أنها تنظر، دون أن نسمح لها بأن تُمسك بالقلم بدلًا منا.

اقرأ أيضًا: التبسيط المُفرط كمخدر ثقافي

  • Related Posts

    المحادثات الفارغة تصبح جذابة.. الذكاء الاصطناعي يضبط المزاج

    AI بالعربي – متابعات لم تعد المحادثة الرقمية وسيلة لتبادل المعلومات فقط، بل تحوّلت في السنوات الأخيرة إلى مساحة لإدارة الشعور ذاته. في عالم تتكاثر فيه المنصات الذكية، لم يعد…

    المحتوى المولّد يتحرّك بسرعة الشائعة

    AI بالعربي – متابعات لم تعد الشائعة، في عصر الذكاء الاصطناعي، حادثة عارضة أو انحرافًا طارئًا في تدفّق المعلومات، بل تحوّلت إلى نموذج حركة. ما كان ينتشر قديمًا بفعل الهمس…

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    مقالات

    الذكاء الاصطناعي يشكل اقتصاداتنا.. ما النتائج؟

    • نوفمبر 29, 2025
    • 134 views
    الذكاء الاصطناعي يشكل اقتصاداتنا.. ما النتائج؟

    الذكاء الاصطناعي يؤجج حرب التضليل الإعلامي

    • نوفمبر 22, 2025
    • 179 views
    الذكاء الاصطناعي يؤجج حرب التضليل الإعلامي

    الذكاء الاصطناعي أَضحى بالفعل ذكيًا

    • نوفمبر 10, 2025
    • 260 views
    الذكاء الاصطناعي أَضحى بالفعل ذكيًا

    في زمن التنظيمات: هل تستطيع السعودية أن تكتب قواعد لعبة الذكاء الاصطناعي؟

    • نوفمبر 8, 2025
    • 263 views
    في زمن التنظيمات: هل تستطيع السعودية أن تكتب قواعد لعبة الذكاء الاصطناعي؟

    “تنانين الذكاء الاصطناعي” في الصين وغزو العالم

    • أكتوبر 30, 2025
    • 286 views
    “تنانين الذكاء الاصطناعي” في الصين وغزو العالم

    الذكاء الاصطناعي في الحياة المعاصرة.. ثورة علمية بين الأمل والمخاطر

    • أكتوبر 12, 2025
    • 425 views
    الذكاء الاصطناعي في الحياة المعاصرة.. ثورة علمية بين الأمل والمخاطر