AI بالعربي – متابعات
لم يكن التاريخ يومًا سجلًا محايدًا للأحداث، بل كان دائمًا نتاج سرد، واختيار، وانتقاء. ما يُكتب يبقى، وما يُهمَل يتلاشى. ومع دخول الذكاء الاصطناعي إلى مجال إنتاج المعرفة، لم يعد التاريخ يُعاد تأويله فقط من خارج النصوص، بل من داخل النموذج نفسه. هنا لا نتحدث عن تزوير فجّ، بل عن إعادة صياغة ناعمة، تتسلّل عبر اللغة، والترتيب، وما يُقدَّم بوصفه “الأكثر شيوعًا” أو “الأرجح”.
النموذج اللغوي لا يمتلك موقفًا أيديولوجيًا بالمعنى التقليدي، لكنه يمتلك ذاكرة تدريب. وهذه الذاكرة، المبنية على كمّ هائل من النصوص، تصبح مرجعًا غير مرئي لإعادة سرد الماضي. التاريخ لا يُحذَف، بل يُعاد ترتيبه، وتنعيمه، وتقديمه في صيغ تبدو موضوعية، لكنها مشروطة بمنطق البيانات.

في هذا السياق، لا يعود السؤال: هل التاريخ صحيح؟ بل: أي نسخة من التاريخ تُقدَّم، ولماذا هذه النسخة تحديدًا؟
البيانات بوصفها مؤرّخًا صامتًا
النموذج لا يقرأ التاريخ كما يقرأه المؤرخ، ولا يراجعه كما يراجعه الباحث. هو يستنتج أنماطًا لغوية من آلاف السرديات التاريخية. ما يتكرر أكثر يكتسب وزنًا أكبر. ما كُتب بلغة رسمية يطغى على ما كُتب بلغة هامشية. وبهذا، تتحوّل الكثرة إلى معيار ضمني للشرعية.
التاريخ الذي ينجو داخل النموذج هو التاريخ الأكثر حضورًا في البيانات، لا بالضرورة الأكثر دقة أو عدلًا. أصوات الأقليات، السرديات المحلية، الروايات غير المكتوبة جيدًا لغويًا، كلها تُضعف فرصها في الظهور. ليس لأن النموذج “يرفضها”، بل لأنه لم يتعلّمها بما يكفي.
يقول أحد باحثي الذاكرة الرقمية: “الخوارزمية لا تنحاز بوعي، لكنها تميل إلى ما تراه أكثر.”
من التأريخ إلى التلخيص
حين يُسأل النموذج عن حدث تاريخي، غالبًا ما يقدّم ملخصًا. هذا الملخص يبدو مفيدًا، لكنه يحمل خطرًا مضاعفًا. التلخيص يتطلب اختزالًا، والاختزال يتطلب اختيارًا. ما الذي يُذكر أولًا؟ ما الذي يُهمل؟ ما السبب وما النتيجة؟ هذه قرارات سردية، حتى لو اتخذتها آلة.
الملخص الآلي يميل إلى السرد الخطي، المتوازن، الخالي من التوترات الحادة. الثورات تصبح “تحولات”، الصراعات تصبح “خلافات”، والضحايا يصبحون أرقامًا. اللغة تهدّئ التاريخ، وتُخرجه من سياقه الانفعالي، فيبدو أقل حدّة، وأقل إزعاجًا.

التاريخ بلا فاعلين
أحد آثار إعادة الصياغة الآلية هو تراجع حضور الفاعلين التاريخيين بوصفهم ذوات معقّدة. الأفراد يتحوّلون إلى أدوار، والجماعات إلى كيانات مجرّدة. النموذج يفضّل الصيغ العامة لأنها أكثر أمانًا لغويًا. “حدث”، “تمّ”، “شهدت الفترة”. الفعل يُفصل عن الفاعل.
هذا الأسلوب يُنتج تاريخًا بلا مسؤولية واضحة. لا أحد يخطئ، ولا أحد يتحمّل. كل شيء “كان نتيجة ظروف”. هذا قد يبدو موضوعيًا، لكنه يُفرغ التاريخ من بعده الأخلاقي.
التنبؤ يتسلّل إلى الماضي
المفارقة أن النماذج التنبؤية، المصممة أساسًا لاستشراف المستقبل، تعيد قراءة الماضي بمنطق الاحتمال. ما يبدو “منطقيًا” اليوم يُسقَط على ما حدث أمس. تُعاد صياغة الأسباب لتبدو حتمية، وكأن التاريخ كان يسير نحو نتيجة واحدة لا بديل لها.
هذا المنطق يُلغي الصدفة، والتردّد، والاختيارات الخاطئة. التاريخ يصبح مسارًا متّسقًا، بينما هو في الحقيقة سلسلة من الانقطاعات. إعادة الصياغة هذه تُريح القارئ، لكنها تُضلّله.

من يملك حق الاعتراض؟
حين تُقدَّم السردية التاريخية عبر نموذج لغوي، تصبح مساءلتها أصعب. النص متماسك، محايد في نبرته، خالٍ من الانحياز الصريح. الاعتراض عليه يبدو وكأنه اعتراض على “المعلومة”، لا على التفسير.
لكن التاريخ، بطبيعته، قابل للنقاش. إعادة صياغته داخل النموذج تُهدّد هذه القابلية. لأن ما يُقدَّم بوصفه “إجابة” يُغلق باب السؤال. ومع الوقت، قد تتحوّل النسخة الآلية إلى مرجع افتراضي، يُعاد نسخه وتداوله دون تمحيص.
التعليم والتاريخ المولّد
الخطر يتضاعف حين يدخل هذا التاريخ المُعاد صياغته إلى التعليم. الطلاب الذين يعتمدون على الإجابات السريعة يحصلون على نسخة واحدة، مختصرة، ناعمة. لا يرون الخلافات بين المؤرخين، ولا تعدد القراءات. التاريخ يتحوّل إلى مادة محفوظة، لا إلى حقل بحث.
وهنا، لا يكون الذكاء الاصطناعي مجرد أداة مساعدة، بل وسيطًا يعيد تعريف ما يعنيه “معرفة التاريخ”.
هل يمكن تصحيح الذاكرة الآلية؟
تصحيح هذا المسار لا يعني منع النماذج من التعامل مع التاريخ، بل جعل ذلك التعامل أكثر شفافية. الإشارة إلى تعدد الروايات، إبراز مناطق الخلاف، الاعتراف بحدود الإجابة. لكن هذا يتطلب تغييرًا في توقعات المستخدمين: أن يقبلوا بعدم الاكتمال، وبأن التاريخ لا يُختزل في فقرة.
بعض الباحثين يقترحون نماذج “تفسيرية” تُظهر مصادرها وتناقضاتها. لكن هذه النماذج أقل سلاسة، وأقل جاذبية. مرة أخرى، يتعارض العمق مع الراحة.
هل يعيد الذكاء الاصطناعي كتابة التاريخ عمدًا؟
لا، لكنه يعيد صياغته بناءً على أنماط البيانات.
هل النسخة الآلية خاطئة دائمًا؟
ليست خاطئة بالضرورة، لكنها ناقصة ومشروطة.
لماذا تبدو محايدة؟
لأن لغتها متوازنة وتفتقر إلى الموقف الصريح.
ما الخطر الأكبر في ذلك؟
تحوّل نسخة واحدة إلى مرجع غير قابل للنقاش.
كيف يمكن للقارئ أن يتعامل مع هذا؟
بمقارنة المصادر والبحث عن التعدد لا الاكتفاء بالملخص.
في النهاية، إعادة صياغة التاريخ من داخل النموذج ليست مؤامرة، بل نتيجة منطقية لتقنية تتعلّم من الماضي لتخدم الحاضر. الخطر ليس في أن الآلة “تغيّر” التاريخ، بل في أن ننسى نحن أن التاريخ ليس نصًا نهائيًا. هو حوار مستمر بين ما حدث، وما كُتب، وما نختار أن نتذكّره. وإذا تركنا هذا الحوار للخوارزمية وحدها، فقد نحصل على تاريخ متماسك، أنيق، وسهل القراءة… لكنه أقل صدقًا، وأقل عدلًا، وأقل قدرة على تعليمنا كيف أخطأنا، ولماذا كان يمكن أن نختار طريقًا آخر.
اقرأ أيضًا: التبسيط المُفرط كمخدر ثقافي








