AI بالعربي – متابعات
كان التردّد، عبر تاريخ الفكر الإنساني، علامة وعي لا علامة ضعف. هو تلك اللحظة التي يتوقّف فيها العقل قبل أن يقفز إلى الحكم، ويُدرك أن الواقع أعقد من إجابة واحدة، وأن الحقيقة كثيرًا ما تُرى من زوايا متعارضة في آن واحد. النسبية لم تكن ترفًا فلسفيًا، بل آلية بقاء معرفي في عالم غير مكتمل. غير أن هذا الهامش الرمادي بدأ يتآكل مع صعود الخوارزميات إلى موقع اتخاذ القرار. الأنظمة الذكية لا تُجيد الانتظار، ولا تُكافئ الشك، ولا تتسامح مع “ربما” إلا بقدر ما يمكن تحويلها إلى رقم.
نحن لا نشهد فقط تغيّرًا في أدوات التحليل، بل تحوّلًا في بنية التفكير نفسها. من عالم يقبل التردّد كمرحلة، إلى عالم يراه خللًا يجب إصلاحه.

الخوارزمية لا تُبنى لتفكّر، بل لتقرّر. وظيفتها الأساسية هي إنتاج نتيجة قابلة للاستخدام. وحتى عندما تُدرِج احتمالات متعددة، فإنها ترتّبها، وتضع واحدًا في الصدارة، وتُخفي البقية في الهامش. هذا الترتيب يبدو تقنيًا، لكنه يُمارَس اجتماعيًا بوصفه حكمًا. ما يظهر أولًا يُفهم بوصفه الأفضل، والأكثر عقلانية، والأقرب إلى الحقيقة.
وهكذا، تتحوّل النسبية من أفق مفتوح إلى ضجيج إحصائي.
من الشك الفلسفي إلى الترجيح الحسابي
في الفلسفة، الشك أداة. يُستخدم لاختبار المسلّمات، لا لإلغائها. أما في النماذج التنبؤية، فالشك حالة غير مرغوبة. عدم اليقين يُترجم إلى انخفاض في الدقة، والدقة مقياس أداء. لذلك تُصمَّم الأنظمة لتقليل التردّد، لا للاعتراف به. كلما زادت البيانات، قلّت مساحة الشك، على الأقل ظاهريًا.
الترجيح الحسابي لا يقول: هذا صحيح، بل يقول: هذا الأرجح وفق ما نعرفه. المشكلة تبدأ حين يُستهلك هذا الترجيح كحقيقة نهائية. المستخدم لا يرى النموذج ولا حدوده، بل يرى النتيجة. ومع تكرار الاستخدام، تتحوّل “الأرجحية” إلى يقين اجتماعي.
يعلّق أحد منظّري المعرفة الرقمية: “الخطر ليس في أن تُخطئ الخوارزمية، بل في أن تُخطئ بثقة.” فالثقة تُسكت الأسئلة.
التردّد كعيب تصميمي
في منطق الأنظمة، التردّد يعني توقّف الخدمة. لذلك يُنظر إليه كفشل. لا توجد خوارزمية تتوقّف لتقول: المسألة معقّدة. حتى عندما تُبرمج على إظهار عدم اليقين، فإن هذا يُقدَّم في صيغة محسوبة: نسب مئوية، احتمالات، خيارات مرتّبة. التردّد الحقيقي—ذلك الذي يربك المستخدم ويدفعه للتفكير—غير مرحّب به.
هذا المنطق ينسحب تدريجيًا على البشر أنفسهم. العامل الذي يتردّد يبدو أقل كفاءة. الباحث الذي يعترف بالحدود يبدو أقل حسمًا. المتحدث الذي يقول “لا أعرف بعد” يُنظر إليه كضعيف، لا كصادق. الخوارزمية لا تفرض هذا الحكم صراحة، لكنها تُعيد تشكيل معاييره.

السرعة بوصفها أداة سلطة
السرعة ليست حيادية. حين تُقدَّم القرارات بسرعة، تقلّ مساحة التفكير. المستخدم يثق لأن الوقت لا يسمح بالشك. ومع الاعتياد، يصبح البطء عبئًا. من يتأنّى يبدو متخلّفًا عن الإيقاع. هكذا تتحوّل السرعة إلى أداة تأثير ناعمة. لا تُجبرك على الاختيار، لكنها تُعجّل به.
في هذا السياق، تُعاد صياغة العلاقة بالحقيقة. لم تعد الحقيقة نتيجة نقاش، بل مخرَج نظام. ما يُعرض الآن يُفهم على أنه ما يجب أن يُفهم. التردّد، بوصفه فعل مقاومة معرفية، يتآكل.
إعادة تشكيل الذائقة المعرفية
مع الاستخدام اليومي للأنظمة التنبؤية، تتغيّر ذائقتنا دون أن ننتبه. نفضّل الإجابات المختصرة، والخيارات المرتّبة، والتوصيات الجاهزة. نملّ من الأسئلة المفتوحة، ونرتاب من الغموض. هذا التحوّل لا يعني أننا أصبحنا أقل ذكاءً، بل أننا نتكيّف مع بيئة لا تكافئ الشك.
النتيجة ثقافية بقدر ما هي تقنية. النسبية، التي كانت جزءًا من التفكير النقدي، تُختزل في نقاشات نخبوية. أما في الحياة اليومية، فيسود منطق “الأفضل وفق البيانات”. ومع الوقت، قد نفقد القدرة على تحمّل التناقض.
الإنسان داخل نظام لا ينتظر
حين يعمل الإنسان داخل أنظمة لا تنتظر، يبدأ في تعديل ذاته. يختصر التفكير، ويقبل بالترتيب، ويُقلّل من الأسئلة. ليس لأن النظام قمعي، بل لأنه فعّال. هذا التكيّف قد يبدو عمليًا، لكنه يحمل ثمنًا خفيًا: فقدان مهارة التردّد.
التردّد ليس عجزًا عن القرار، بل قدرة على تعليقه. وهذه القدرة ضرورية في قضايا الأخلاق، والسياسة، والهوية، والمعنى. لا يمكن حسم هذه المسائل بترجيح حسابي فقط. ومع ذلك، تتسلّل الخوارزميات إليها عبر واجهات تبدو محايدة.

هل يمكن تصميم بديل يحترم النسبية؟
نظريًا، نعم. يمكن تصميم أنظمة تُظهر حدودها، وتعرض بدائل متساوية دون ترتيب قسري، وتُشجّع المستخدم على التمهّل. لكن هذا يتعارض مع منطق السوق الذي يُكافئ السرعة والوضوح. النسبية لا تبيع بسهولة، ولا تُقاس بسرعة.
التحدّي إذن ليس تقنيًا فقط، بل ثقافي. هل نحن مستعدون لقبول أن بعض الأسئلة لا يجب أن تُجاب فورًا؟ وهل نملك الشجاعة للاعتراف بأن “لا نعرف بعد” قد تكون أصدق من أي توصية؟
العودة إلى التردّد بوصفه قيمة
استعادة النسبية لا تعني رفض الخوارزميات، بل إعادة وضعها في حجمها. أن نفهم أنها أدوات ترجيح، لا محاكم حقيقة. أن نستخدمها لتوسيع الأفق، لا لإغلاقه. أن نحتفظ بحق الشك، حتى ونحن نضغط على زر الاختيار.
التردّد، في عالم سريع، يصبح فعل مقاومة. ليس مقاومة للتقنية، بل لميلها إلى الاختزال. لأن ما لا يحتمل التردّد، قد لا يحتمل الإنسانية.
هل الخوارزميات تُلغي النسبية بالكامل؟
لا تُلغيها نظريًا، لكنها تُهمّشها عمليًا لصالح الحسم.
لماذا ننجذب إلى القرارات الحاسمة؟
لأنها تقلّل القلق وتمنح شعورًا بالسيطرة.
هل يمكن الجمع بين السرعة والتفكير النقدي؟
نعم، إذا عُرضت التوصيات مع توضيح حدودها وسياقها.
هل التردّد ضعف في عالم تنافسي؟
قد يبدو كذلك، لكنه ضرورة في القضايا المعقّدة.
ما دور المستخدم في هذا المشهد؟
أن يُميّز بين الترجيح والحقيقة، وألا يتنازل عن حق الشك.
في النهاية، نهاية النسبية ليست حدثًا مفاجئًا، بل مسارًا تدريجيًا. كل مرة نقبل فيها توصية بلا سؤال، يضيق الهامش قليلًا. وكل مرة نُفضّل السرعة على الفهم، نخسر جزءًا من قدرتنا على التردّد. الخوارزميات لا تتسامح مع التردّد لأنها لم تُصمَّم له. أما الإنسان، فإن تخلّى عنه، قد يتخلّى عن إحدى أهم أدواته لفهم عالم لا يُختزل في إجابة واحدة.
اقرأ أيضًا: نهاية السرد التقليدي.. صعود القصة التنبؤية








