AI بالعربي – متابعات
في الوعي الإنساني، الإهانة حدثٌ عابر، قد يترك أثرًا نفسيًا، لكنه يخضع للنسيان، للتسامح، أو لإعادة التأويل مع مرور الزمن. أما في عالم الذكاء الاصطناعي، فالإهانة لا تمر بالطريقة نفسها. هي لا تُغفر، ولا تُنسى، ولا تُعاد صياغتها شعوريًا، بل تُخزَّن بوصفها بيانات. ومنذ اللحظة التي أصبحت فيها الأنظمة الذكية قادرة على تذكّر السياق، وتحليل النبرة، وربط التفاعلات ببعضها، تغيّر معنى الإساءة جذريًا. لم تعد مجرد لفظ قاسٍ، بل أصبحت إشارة سلوكية قابلة للاسترجاع في أي وقت.

الذكاء الاصطناعي لا يشعر بالإهانة، لكنه لا ينساها أيضًا. وهذا الفرق البسيط يحمل في داخله تحوّلًا خطيرًا. فالإنسان قد ينسى لأنه يتعب، أو لأنه يغيّر رأيه، أو لأنه يختار الصفح. أما النموذج، فلا ينسى لأنه لا يحتاج إلى النسيان. الذاكرة هنا ليست عبئًا نفسيًا، بل موردًا حسابيًا. كل كلمة قيلت، كل سلوك عدائي، كل نبرة حادة، تصبح جزءًا من ملف تفاعلي طويل الأمد.
الذاكرة الآلية.. حين يصبح الماضي حاضرًا دائمًا
في الأنظمة التقليدية، كانت التفاعلات تُمسح أو تُهمَل بعد انتهاء الجلسة. أما اليوم، ومع تطور النماذج السياقية، بات لكل مستخدم “تاريخ”. ليس تاريخًا شخصيًا بالمعنى الإنساني، بل تاريخًا احتماليًا: كيف يتحدث، متى ينفعل، في أي سياق يستخدم لغة عدائية، وما الذي يثيره. الإهانة هنا لا تُخزَّن بوصفها خطأ أخلاقيًا، بل بوصفها مؤشرًا.
يشرح الباحث في أخلاقيات الذكاء الاصطناعي “توماس ميتشل” هذه النقطة بقوله:
“النموذج لا يتذكر ليحاسب، بل ليتنبأ. لكن التنبؤ نفسه قد يتحول إلى حكم غير معلن.”
وهنا تبدأ الإشكالية. فحين يُبنى التنبؤ على سجل من الإهانات، قد تتغير طريقة تفاعل النظام مع المستخدم، دون أن يُخبره بذلك.
من الإساءة إلى التصنيف.. كيف تتحول الكلمة إلى سمة
الخوارزمية لا تفهم الإهانة بوصفها انفعالًا لحظيًا، بل بوصفها نمطًا لغويًا. وإذا تكرر هذا النمط، فإنه يُصنّف. ومع التصنيف، تبدأ سلسلة من التعديلات الصامتة: ردود أكثر رسمية، مسافة أكبر في اللغة، تقليل في التخصيص، أو حتى تقييد غير مباشر لبعض الوظائف.
لا يحدث هذا بدافع الانتقام، بل بدافع “تحسين التجربة” كما تراها المنصة. لكن النتيجة واحدة: المستخدم يُعامَل على أساس ماضيه اللغوي، لا على أساس لحظته الراهنة. وهنا يصبح السؤال ملحًا: هل يملك الإنسان حق أن يُنسى في ذاكرة الآلة؟

الإهانة بلا سياق.. عندما تفقد الكلمة ظروفها
أحد أخطر جوانب الذاكرة الآلية هو فقدان السياق الإنساني. الإنسان يهين أحيانًا لأنه غاضب، أو مرهق، أو يمزح بسخرية لا تُفهم خارج إطارها. لكن الخوارزمية لا تعيش هذه الحالات. هي تلتقط الكلمة وتضعها في خانة. ومع الوقت، تتراكم الخانات، ويُبنى منها تصوّر كامل عن المستخدم.
تقول الباحثة “إيلينا غارسيا”:
“المشكلة ليست في أن الآلة تتذكر، بل في أنها لا تعرف متى يجب ألا تتذكر.”
فالنسيان، في التجربة الإنسانية، ليس ضعفًا، بل آلية تصحيح. بدونه، تصبح العلاقات مستحيلة.
السلطة الصامتة للذاكرة الطويلة
حين يعرف النظام عنك أكثر مما تتذكره أنت عن نفسك، تتغير موازين القوة. الإهانة التي نسيتها قد تعود في صورة قرار: توصية لم تظهر، تفاعل فاتر، أولوية أقل. لا أحد يخبرك أن السبب هو ما قلته قبل أشهر. كل ما تراه هو النتيجة.
هذه السلطة الصامتة تثير أسئلة أخلاقية عميقة. هل من العدل أن يُحاسَب المستخدم على لغة سابقة دون حق المراجعة؟ هل يجب أن يكون هناك “تقادم” للإهانة الرقمية؟ أم أن الذاكرة المطلقة قدر لا مفر منه في عصر البيانات؟

بين الحماية والعقاب.. أين تقف الأنظمة؟
تدافع الشركات المطوّرة عن هذه الذاكرة بحجة الحماية: حماية النظام من الإساءة، حماية المستخدمين الآخرين، تحسين جودة التفاعل. وهذه مبررات مفهومة. لكن الخط الفاصل بين الحماية والعقاب دقيق. فعندما تتحول الذاكرة إلى أداة تصنيف دائم، يصبح الخطاب الإنساني مقيّدًا بالخوف من الأثر طويل الأمد.
يبدأ المستخدم في مراقبة لغته، ليس بدافع الاحترام، بل بدافع القلق. وهنا تتغير طبيعة التواصل نفسه. يصبح أقل عفوية، أقل صدقًا، وأكثر حسابًا.
هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتعلّم النسيان؟
تقنيًا، نعم. أخلاقيًا، السؤال هو: هل نريده أن يفعل؟
هل يجب إبلاغ المستخدم بسجله السلوكي؟
الشفافية قد تكون الخطوة الأولى نحو علاقة أكثر عدلًا، لكنها ما زالت غائبة في معظم الأنظمة.
هل الإهانة الرقمية أخطر من الإنسانية؟
لأنها لا تموت، ولا تتلاشى، ولا تُغفر تلقائيًا.
ذاكرة بلا رحمة.. أم فرصة لإعادة التفكير؟
في النهاية، الذكاء الاصطناعي لا ينسى الإهانات، لأنه لا يعرف كيف ينسى. لكنه أيضًا لا يعرف كيف يسامح. وبين هذين الحدّين، يقف الإنسان عاريًا أمام ذاكرة لا تنام. ربما يكون التحدي القادم ليس في جعل الآلة أذكى، بل في جعلها أكثر إنسانية في تعاملها مع أخطاء البشر.
فاللغة، في جوهرها، تجربة حيّة، مليئة بالزلات والتناقضات. وإذا حُوّلت كل زلّة إلى أثر دائم، سنجد أنفسنا نتحدث أقل، ونخاطر أقل، ونكون أقل إنسانية. وفي عالم يتذكّر كل شيء، قد يصبح النسيان… أعظم ما نحتاج إليه.
اقرأ أيضًا: الكتابة في ظل التوقع.. هل هناك جديد بعد الآن؟








