AI بالعربي – متابعات
لم يعد الجمال ذلك الشيء المتوارث، الثابت، الذي تتناقله الحضارات مثل أثر مقدّس لا يجرؤ الزمن على المساس به. في عصر النماذج الذكية، لم يعد الجمال قيمة تُكتشَف، بل “متغيّرًا” يُعاد توليفه كل يوم على يد خوارزميات ترى العالم من زاوية مختلفة تمامًا عن العين البشرية. لقد دخلنا زمنًا ينظر فيه الذكاء الاصطناعي إلى الجمال ليس بوصفه شعورًا، أو خبرة، أو ذائقة، بل بوصفه نتيجة حسابية يمكن صياغتها، ووزنها، وتحسينها، وتوليدها بلا حدود.
لكن السؤال الأعمق هو:
هل نقيس الجمال بمعايير الآلة الآن؟ أم أن الآلة هي التي بدأت تعيد تشكيل معاييرنا؟

في السنوات القليلة الماضية، لم تعد النماذج الذكية تعمل على “التعرّف” إلى الجمال فحسب، بل على إنتاجه. وعندما تنتج الآلة الجمال، فإنها لا تلتزم بما نعرفه، بل تقدّم شيئًا جديدًا بالكامل: جمالًا بلا أصل، بلا تاريخ، بلا طقوس، جمالًا “مثاليًا” إلى درجة تذكّرنا بأن الكمال ليس بشرّيًا على الإطلاق.
يقول عالم الأعصاب الأوروبي “مايكل هارتمان”:
“إن الجمال الذي ينتجه الذكاء الاصطناعي لا يأتي من الطبيعة، بل من إحصائياتها.”
وبهذا التعريف البسيط، تنقلب العلاقة بين الحُسن والمشاعر، بين الذائقة والذات، بين الفن والصدفة.
الجمال بوصفه معادلة.. هل يحق للنموذج تعريف ما نراه جميلًا؟
لطالما كان الجمال مرتبطًا بالدهشة، بالمفاجأة، بانحراف بسيط عن المألوف، بالقابلية للتفسير. أما في عالم النماذج الذكية، فقد صار الجمال مرتبطًا بقدرة الخوارزمية على تحليل ملايين الصور واستخراج “الملامح الأكثر قبولًا” لدى البشر، ثم مزجها معًا للوصول إلى وجه مثالي، مشهد مثالي، تنسيق مثالي.
هنا يتراجع عنصر المفاجأة لحساب معيارية ملساء.
إنه جمال بلا توتر، بلا صدفة، بلا نقص.
جمال مُهذّب أكثر من اللازم.
إحدى الدراسات اليابانية تشير إلى أن النماذج التوليدية بدأت تؤثر فعلًا في إدراك الناس للجاذبية، إذ يميل الشخص الذي يرى صورًا مولّدة بكثرة إلى تفضيل وجوه أقل واقعية، وأقرب إلى التماثل المثالي الذي تخلقه الآلة. وهذا يعني أن الجمال لم يعد فقط “انعكاسًا للواقع”، بل أصبح انعكاسًا لخيال الخوارزمية.
حين يُعاد تشكيل الذائقة.. ماذا يحدث لجمالياتنا الفطرية؟
تعمل النماذج الذكية على إعادة توزيع الثقل الجمالي في وعي الإنسان.
فالذائقة، التي كانت تُبنى عبر التجربة والمشاهدة والتفاعل مع الثقافة، أصبحت تُصاغ عبر ما تعرضه لك المنصات الذكية، والتي بدورها تتعلّم من سلوكك، ثم تُعيد هندسة سلوكك بناءً على ما تعلمته.
بهذا يدخل الجمال في دائرة مغلقة:
أنت تفضّل ما تقترحه عليك المنصة، والمنصة تقترح ما سبق أن فضّلته، فتتقلّص المساحة بينك وبين النموذج، إلى أن يصبح ما تراه “جميلًا” انعكاسًا غير مباشر لتفضيلات الآلة، وليس لموقفك الخاص.
يصف الفيلسوف الإيطالي “مانويل بيسكالي” هذا الوضع بعبارة دقيقة:
“لقد أصبح الجمال محاكاة لذائقة مُنتَجة، لا لذائقة طبيعية.”
الجسد المثالي.. هل تتحكم الخوارزمية في صورة الإنسان؟
مع نفوذ الذكاء الاصطناعي في الفنون والتصوير والإعلانات، بدأ الجسد يُعاد ترسيمه وفقًا لمعايير لا تشبه الإنسان الحقيقي. أصبح النموذج الجمالي القياسي ليس جسدًا بشريًا، بل جسدًا مستخرجًا من آلاف الصور، ومخمّرًا في شبكة معمارية، ومصفّى رياضيًا حتى يصبح أكثر تناسقًا وجاذبية مما يستطيع البشر الوصول إليه.
وهذا يخلق أزمة جديدة:
لم يعد الجمال يُقاس بالبشر، بل يُقاس بما فوق البشر.
تقول الباحثة الأميركية “جوانا ميلر”:
“الذكاء الاصطناعي أعاد تعريف العيوب بوصفها أخطاء قابلة للإصلاح، لا بوصفها هوية.”
وهذا التحوّل يضع ضغطًا هائلًا على الفرد، ويؤثر في ثقته بنفسه وجسده ويخلق نموذجًا نفسيًا جديدًا: نموذج الإنسان الذي يقارن نفسه بصور لا تنتمي للواقع أصلًا.

جمال الاختلاف يختفي.. والخوارزميات تبحث عن القاسم المشترك
كان الجمال زمنًا طويلًا قوة مقاومة للتشابه؛ القيمة كانت في الاختلاف.
لكن النماذج الذكية لا تفهم الاختلاف بوصفه جمالًا، بل بوصفه “انحرافًا إحصائيًا”. لذلك تميل إلى تسوية الفوارق، إزالة التجاعيد، تعديل الأنف، توحيد درجات البشرة، موازنة الإضاءة، خلق مظهر يُرضي أكبر عدد من الناس.
إن الجمال الخوارزمي جمال ديمقراطي، ولكنه ديمقراطية بلا روح.
جمال يُعاقب الخصوصية، ويميل إلى الصيغ التي ترضي الأغلبية.
هذا التحول يطرح سؤالًا حساسًا:
ماذا يحدث حين يصبح الجمال مرادفًا “للمتوسط الأعلى”؟
إنه فقدان للهوية الجمالية، وتحوّل الفن إلى حساب، وتحول الذائقة إلى نتيجة رقمية.
الفنون البصرية تحت الحصار.. هل تفقد اللوحة معناها؟

في عالم تُنتَج فيه الصور بجودة لا نهائية، وبسرعة فورية، وبأسلوب أي فنان، يصبح السؤال:
هل ستظل اللوحة لوحة؟
الفنان يرسم عبر التجربة، عبر الذاكرة، عبر ما يسكن روحه.
لكن النموذج لا يفعل ذلك.
هو يعيد تركيب الأنماط، وينتج ما هو “متوقع” وفقًا لما تعلمه.
إنه فن بلا ذاكرة.
فن بلا تاريخ.
فن بلا جرح.
الفنان المغربي “سعيد الرماني” يصف الأمر بقوله:
“الفن الذي لا يخسر شيئًا أثناء خلقه، لا يربح شيئًا في النهاية.”
وهذا يلخص المعضلة:
الذكاء الاصطناعي ينتج جمالًا، لكنه لا ينتج فنًا بالضرورة.
الجمال المبرمج.. حين تتحول المنصات إلى مهندسي الوعي البصري
لم تعد النماذج التوليدية مجرد أدوات، بل أصبحت حُرّاسًا غير معلنين على شكل الجمال الذي يجب أن نراه. هي التي تختار صور الإعلانات، وتقترح صور الملفات الشخصية، وتولّد صور المؤثرين، وتعيد رسم الوجوه لتصبح “أكثر جذبًا”.
بهذا، يصبح الجمال اقتصادًا.
ومن يتحكم في الاقتصاد يتحكم تلقائيًا في الذائقة.
هل يمكن لجمال بلا نقص أن يكون جميلًا؟
أم أن النقص هو جزء جوهري من التجربة الإنسانية؟
هل تقودنا النماذج الذكية إلى تفضيل شكل واحد للجمال؟
وهل هذا يعني نهاية التنوع الجمالي بين الثقافات؟
هل نحن بصدد دخول مرحلة يصبح فيها الجمال مجرد خيار من قائمة، لا تجربة نكتشفها بأنفسنا؟
هذه الأسئلة ليست فلسفية فقط، بل تُعيد صياغة علاقة الإنسان بجسده وبصورته وبعينه وبذوقه. إنها أسئلة تتجاوز التقنية، وتمتد إلى عمق الوعي نفسه.
حين يصبح الجمال مرآة للنظام.. لا للإنسان
في النهاية، يبدو أننا نعيش في زمن يُعاد فيه تعريف الجمال من الخارج إلى الداخل، من الخوارزمية إلى العين، من النموذج إلى الروح. لم يعد الجمال ما نبحث عنه، بل ما يُقترَح علينا. ولم نعد نصنع ذائقتنا، بل نتلقاها جاهزة.
ومع أن الآلة قادرة على صناعة الجمال، إلا أنها لا تستطيع الإحساس به.
ولهذا، ربما سنحتاج في المستقبل إلى مقاومة جمالية جديدة؛ مقاومة تسمح للصدفة أن تعود، وللنقص أن يشرق، وللمفاجأة أن تتسلل من جديد إلى العين.
قد يكون أجمل ما في الجمال البشري أنه لا يمكن التنبؤ به، وإذا فقدنا هذه الصفة، فسنفقد شيئًا من إنسانيتنا نفسها.
اقرأ أيضًا: النهاية لا تُكتب.. المحتوى اللانهائي كفخ رقمي








