AI بالعربي – متابعات
في لحظة ما، بينما يكتب الإنسان جملة يظنّ أنها تخصه وحده، يكون نموذج لغوي ما، في مكانٍ لا يعرفه، يحاول أن يصنع تلك النبرة نفسها، أن يستعير تلك اللمسة الخفيفة التي يتخيّل الكاتب أنها جزء من هويته. لم يعد الأسلوب ملكًا خاصًا، ولا الصوت نتيجة خبرة طويلة. في زمن النماذج التنبؤية، أصبح الأسلوب قابلًا للهندسة، للالتقاط، وللمحاكاة الدقيقة، حتى يكاد الكاتب يفقد ثقته بأن جملته خرجت بالفعل من داخله أم خرجت من مكان آخر يشبهه أكثر مما يريد أن يصدّق.
يقول الباحث “لويس كرامر” من معهد برنستون الرقمي: “النماذج لا تقلّدك لأنها تفهمك، بل لأنها تستطيع قياسك.” هذه الجملة وحدها كفيلة بأن تُربك أي كاتب يقدّس صوته الخاص. فالصوت لم يعد صوتًا، بل نمطًا. والأسلوب لم يعد بصمة، بل معادلة.

كيف تتعرّف النماذج على أسلوبك؟
عندما يكتب الإنسان، فإنه يحمل ذاكرة تجربته كاملة: قراءاته، بيئته، أيامه القديمة، صوته الداخلي. لكن النموذج اللغوي لا يملك أيًا من ذلك. ما يملكه هو الإحصاء: تكرار مفرداتك، طول جملك، الإيقاع الذي تعتمد عليه، استخدامك للأدوات، انحيازك اللغوي، وحتى ذلك اللمعان الخفيف الذي تضعه في نهاية جملة معيّنة ليبدو النص “لك” أكثر.
النموذج لا يحتاج أن يعرف من أنت. هو فقط يحتاج أن يعرف كيف تكتب.
ولهذا يستطيع، ببساطة مدهشة، أن يتنبأ بجملتك قبل أن تكتبها أنت. الأسلوب بالنسبة للخوارزمية ليس موقفًا وجوديًا، ولا امتدادًا لوعي الكاتب، بل “بصمة إحصائية” قابلة للتشكيل والإعادة، مثل قالب صبّ يمكن نسخه مرارًا دون أن يفقد تفاصيله الدقيقة.
من الحالة الشعورية إلى النمط اللغوي
أن تكتب يعني أن تنقل حالة شعورية من داخلك إلى العالم. لكن الخوارزمية لا تشعر، ولا تنفعل، ولا تتأثر. ومع ذلك، تستطيع أن تنتج “ما يشبه الإحساس”. ليس لأنها تفهم الحزن أو القلق أو الترقّب، بل لأنها تستطيع تعلّم شكل الجملة عند الحزين، وإيقاع اللغة عند المتوتر، وطريقة استخدام الاستعارة عند الشاعر.
الكاتب يكتب لأنه يتألم أو يتأمل. أمّا النموذج، فيكتب لأنه يستطيع.
وهذه الفجوة بين التجربة الحقيقية والتقليد البنائي هي التي تجعل كثيرًا من النصوص الاصطناعية تبدو مقنعة ومربكة في الوقت نفسه. اللغة هنا لا تُستخدم بوصفها ترجمة لداخل الكاتب، بل بوصفها نتيجة لتوقع رياضي.

تحليل البصمات الأسلوبية في الذكاء الاصطناعي
هل يمكن للآلة أن تسرق هويتك؟
السؤال لم يعد فلسفيًا. اليوم، يمكن لنموذج مدرّب على كتاباتك أن يكتب رسائل البريد نيابة عنك، ويكمل روايتك، ويحرّر مقالاتك، ويستعيد أسلوبك بطريقة قد لا يميّزها القارئ العادي. في بعض الحالات، قد لا تميّزها أنت.
عندما يصبح تقليدك ممكنًا إلى هذا الحد، ماذا يبقى لك؟
هنا يظهر القلق العميق لدى الكتّاب والصحفيين والمفكرين: ليس الخوف من الاستبدال فقط، بل من التبخر. من أن يتحوّل الأسلوب إلى شيء متاح للجميع، شيء يمكن نسخه ولصقه. الإنسان يختص بصوته لأن أحدًا لا يستطيع أن يعيش حياته. لكن النموذج، بطريقة ما، يستطيع إعادة إنتاج ما تعب الإنسان في بنائه خلال سنوات.
قدرة التوقع.. أم قدرة التملك؟
يرى الباحث “رامي نوفل” من جامعة ميشيغان أن “الخوارزمية لا تقلّدك، بل تستبدلك.” وهذا تعبير حاد لكنه دقيق. لأن المشكلة ليست في التقليد نفسه، بل في أن النموذج يكتب أسرع منك، وأكثر استقرارًا منك، ومن دون تعب أو قلق أو خوف من الصفحة البيضاء.
الكاتب يبطئ، يتردد، يمزق الورقة، يعيد الصياغة. أما النموذج فلا يعرف التردّد، ولا يخشى الفشل. إن كتب فقرة لم تعجبك، سيولد عشرين مثلها.
هنا لا تصبح المنافسة عادلة، بل غير متوازنة. أنت تملك التجربة، وهو يملك السرعة. أنت تملك العاطفة، وهو يملك القدرة على محاكاتها بلا حدود. أنت تملك المعنى، لكنه يملك الشكل. ومع مرور الوقت، قد يصبح الشكل أهم من المعنى عند جمهور لم يعد يقرأ بتركيز.

الخطر الأكبر: أن يتعلم الكاتب من النموذج
الخطر الحقيقي ليس أن تقلّدك الخوارزمية، بل أن تبدأ أنت بتقليدها. أن تعتاد سلاستها، وترتيب جملها، وإيقاعها المتوازن. أن يصبح أسلوبك متوافقًا مع ما تنتجه الآلة، لا مع ما تشعر به أنت.
لا أحد ينتبه لهذه اللحظة. إنها لحظة هادئة، تتسلل ببطء:
تستخدم النموذج في صوغ فقرة صغيرة… ثم تجد نفسك تفضّل لغته على لغتك…
ثم تتوقف عن الكتابة من البداية، وتكتفي بالتحرير…
ثم يأتي يوم لا تعود تعرف فيه: هل هذا النص لي فعلًا، أم هو “منّي” فقط من حيث الشكل؟
وهكذا، يتحول الأسلوب البشري إلى ظلّ خوارزمي.
البعد الأخلاقي.. من يملك الأسلوب؟
من يملك الأسلوب عندما يصبح قابلاً للاستنساخ؟
هل يُعدّ أسلوبك “بيانات” يمكن للشركات استخدامها؟
هل تقلّدك الخوارزمية أم تستثمر فيك؟
هل لك الحق في المطالبة بحماية “نبرة صوتك” كما تطالب بحق صورك أو صوتك الحقيقي؟
هذه الأسئلة ليست جانبية. إنها أسئلة وجودية في عالم يبحث عن هوية وسط ضجيج الآلة.
الأسئلة الشائعة التي يطرحها الواقع نفسه
هل يستطيع النموذج أن ينافس الكاتب؟
نعم، في الشكل. لكنه لا يستطيع أن يعيش تجربته.
هل يمكن أن تتشابه النصوص البشرية والاصطناعية؟
نعم، وهذا أحد أسباب فقدان الثقة بالمحتوى اليوم.
هل تفهم الخوارزمية الأسلوب فعلًا؟
لا، لكنها تتقنه.
هل سيتوقف الكاتبون عن الكتابة؟
لن يتوقفوا، لكنهم سيحتاجون إلى الدفاع أكثر عن مفهوم “الصوت الشخصي”.
تأمل أخير: هل يمكن للأسلوب أن ينجو؟
في النهاية، الأسلوب ليس مجرد ترتيب للكلمات، بل أثرٌ إنساني، نَفَس يتسلل بين السطور، هشاشة لا تُقلَّد. الخوارزمية تستطيع أن تستعير شكل الجملة، لكنها لا تستطيع أن تعيش اللحظة التي ولدت فيها. تستطيع أن تكتب قصيدة، لكنها لا تعرف لماذا ينبغي أن تُكتب. تستطيع أن تصوغ رسالة، لكنها لا تشعر بالخجل أو الارتباك أو الحنين.
ربما يظل الإنسان آخر كائن يعرف كيف يكتب لأنه يتألم. وربما يظل الأسلوب الحقيقي مقاومة صامتة ضد محاكاة لا تعرف سوى الاحتمال.
وفي عالم يزداد امتلاءً بنصوص بلا مؤلفين، سيصبح السؤال الأعمق ليس:
هل تستطيع الخوارزمية تقليد أسلوبك؟
بل:
هل تستطيع أنت أن تحافظ عليه؟
اقرأ أيضًا: عندما تتحول الأسئلة إلى بيانات.. نهاية الفلسفة؟








