AI بالعربي – متابعات
كان السؤال يومًا ما هو الأداة الأولى للمعرفة. الفلسفة، عبر قرون، لم تُبنَ على الأجوبة بقدر ما بُنيت على كيفية طرح السؤال. لكن شيئًا عميقًا يحدث الآن: تتحول الأسئلة إلى بيانات قابلة للتحليل، وتحلّ الخوارزميات محلّ التأمل الطويل.
لقد بدأ الإنسان يفقد حقه التاريخي في طرح السؤال بوصفه فعل حرّ، لأن التكنولوجيا تستطيع الآن التنبؤ بما سنسأل قبل أن نسأل.
يقول عالم الإنسانيات الرقمية “سامويل هاردي”:
“كان السؤال هو بداية الوعي. اليوم أصبح مجرد إشعار ينتظر نموذجًا ليستجيب له.”
وهكذا يبدأ السؤال المؤرق: هل تدخل الفلسفة مرحلة أفولها أمام صعود النموذج التنبؤي؟

السؤال كمرآة للوعي
عبر تاريخ الفكر، لم تكن الأسئلة مجرد أدوات، بل كانت تعبيرًا عن قلق الإنسان، حيرته، رغبته في فهم العالم. السؤال هو جوهر الحرّية، لأنه فعل لا يمكن التنبؤ به بسهولة.
لكن حين تتحول الأسئلة إلى بيانات، فإنها تفقد دلالتها الإنسانية وتكتسب دلالة وظيفية: تصبح “حفرة” داخل شبكة ضخمة من الأنماط، يُستخدم وجودها لتحسين النموذج، لا لتحسين الفهم.
الأسئلة اليوم تُسجَّل، تُحلَّل، تُصنَّف، وتُربَط بسلوك المستخدمين.
الطفل الذي يسأل “لماذا السماء زرقاء؟” على محرك بحث ليس هو نفس الطفل الذي يسألها في حضن والدته.
في الحالة الأولى، السؤال مادة خام.
في الثانية، هو بحث عن علاقة.
أخطر ما يحدث اليوم هو أن السؤال لم يعد يُفهم بوصفه قلقًا بشريًا، بل نمطًا سلوكيًا.
الخوارزميات تعيد تعريف معنى الفضول
في العلم الكلاسيكي، كان الفضول هو الشرارة الأولى للمعلومة. أما الآن، تعتمد منصات المعرفة على أنماط الأسئلة المتكررة لصنع محتوى مخصص، مما يجعل ما نراه مسبق التجهيز.
أي أننا لا نبحث لأننا فضوليون، بل نصبح فضوليين لأن النظام يقترح علينا ما ينبغي أن نبحث عنه.
يقول الباحث “لورنس ويتمن”:
“الخوارزميات تغيّر ترتيب الأسئلة قبل أن تبدأ عملية التفكير نفسها.”
لو كانت الفلسفة فعلًا يُمارَس من الداخل، فالبيئة الرقمية الجديدة تمارس فعلًا معاكسًا:
صناعة فضول خارجي يتحكم به نظامٌ إحصائي.
وهكذا تبدأ الفلسفة في التراجع.
السؤال يصبح مُنتجًا تجاريًا
لم يعد السؤال معزولًا عن السوق. اليوم يُباع ويُشترى ويُستثمر فيه.
الشركات العملاقة تعتمد على تحليل البيانات الناتجة عن أسئلة المستخدمين للوصول إلى نواياهم النفسية والشرائية والسياسية.
لم تعد الأسئلة بوابة للمعرفة؛ أصبحت بوابة للتسويق.
وهذا التحول خطير لأن السؤال لم يعد ملك صاحبه، بل أصبح ملك النموذج الذي يحلل ويستثمر ويعيد توجيه السلوك.
هذه لحظة مفصلية في تاريخ الفكر: فقدان السيطرة على الأسئلة يعني فقدان السيطرة على الذات.

الجواب المعلّب ينهي احتمالات التفكير
في الفلسفة، قيمة السؤال ليست في الإجابة بل في تعدد طرق الإجابة.
أما في الزمن الخوارزمي، هناك “أفضل إجابة” محسوبة، مبنية على معدلات النقر ومقاييس رضا المستخدم.
إنه منطق لا يعترف بالاحتمال، بل بالترتيب: الإجابة الأولى هي الأصح، لأنها الأكثر شيوعًا.
لكن الشائع ليس دائمًا صحيحًا.
والصحيح ليس دائمًا محبوبًا.
وهكذا تتحول المعرفة إلى سباق شعبية، لا إلى بحث عن الحقيقة.
الفلسفة كانت تحمي الإنسان من سلطة الإجابة الجاهزة، لكن الخوارزميات تُعيدنا إلى حضن يقين لا يرحم، يقين مبني على أنماط وليس على تفكير.
السؤال يُصبح توقّعًا
أخطر ما في التحوّل الرقمي ليس أن الآلة تجيب، بل أنها تنبّهك إلى ما ينبغي أن تسأل عنه.
حين تفتح متصفحك وتجد الأسئلة المقترحة، فأنت لا تبدأ عملية تفكير؛ أنت تكمل عملية بدأت خارجك، من قبل خوارزميات تتوقع اهتماماتك وتوجهك نحو مسار معين.
بهذا المعنى، الإنسان لم يعد صانع السؤال بل مستقبل السؤال.
والوعي الذي يخسر قدرة المبادرة يخسر جزءًا من حريته.
يقول الفيلسوف “جيروم دوتان”:
“ما لم نعد نقرره بأنفسنا، لا يعود جزءًا من إنسانيتنا.”
سقوط السؤال الوجودي أمام السؤال العملي
في الفلسفة، هناك أسئلة كبرى شكّلت الوعي الإنساني:
من نحن؟
ما الزمن؟
لماذا نحيا؟
ما الخير؟
ما الجمال؟
لكن في عالم البيانات، الأسئلة الأكثر قيمة هي العملية:
أين أذهب؟ ماذا أشتري؟ ما الذي يُناسبني؟ كم سأربح؟ كيف أصل؟ كيف أتجاوز؟
وهي أسئلة تُرجع الإنسان إلى دائرة الاستهلاك، لا التفكير.
لم تعد الفلسفة تُهمّ لأن العالَم لا يحتاج إلى من يسأل “لماذا؟” بل إلى من يسأل “كيف؟”.
والفرق بينهما هو الفرق بين إنسان عارف بذاته وإنسان محاصر بوظائفه.

هل تنتهي الفلسفة فعلاً؟
هناك من يقول إن الفلسفة لم تمت، بل تتغير أدواتها.
فالخوارزميات قد تدفعنا إلى أسئلة جديدة:
هل يمكن للآلة أن تعي ذاتها؟
هل يملك النموذج هوية؟
ما معنى الحرية حين نعيش داخل أنظمة توصية؟
هل الوعي مجرد بيانات؟
هل المستقبل يُكتب مسبقًا في قواعد بيانات ضخمة؟
هذه كلها أسئلة فلسفية جديدة لم يكن ممكنًا طرحها قبل الزمن الرقمي.
لكن هناك حقيقة يجب الاعتراف بها:
الفلسفة تفقد مكانتها كمحرّك أول للمعرفة، وتتحول إلى تأمل في آثار المعرفة الرقمية.
إنها لا تنتهي، لكنها لم تعد تقود العالم؛ بل تحاول فهم العالم الذي صنعته الخوارزميات بدل الإنسان.
مأزق المعنى في عصر التنبؤ
حين تصبح القرارات البشرية متوقعة قبل حدوثها، ماذا يتبقى من الذات؟
يصبح الفرق بين السؤال والإجابة مجرد فارق زمني لا يتجاوز أجزاء من الثانية.
يصبح السؤال حدثًا رياضيًا، لا حدثًا إنسانيًا.
تصور أن نموذجًا يعرف أنك ستسأل “هل قرار الهجرة مناسب؟” بناءً على نمط نومك، بحثك، علاقاتك، مزاجك.
هل يظل السؤال سؤالك؟
أم يصبح استجابة لما هو مُعد مسبقًا؟
هذا هو المأزق الفلسفي الجديد:
المعنى نفسه يصبح خاضعًا لعمليات حسابية.
هل يصبح السؤال بلا قيمة؟
في عالم تستبق فيه الآلة السؤال، وتختصر الإجابة، وتتحكم في مسار الفضول، يصبح السؤال التقليدي ضعيفًا، هشًا، بلا قدرة على اختراق جدار التوقع.
لكن السؤال الفلسفي الحقيقي لا يمكن قتله:
لأنه سؤال لا يحتاج إلى شاشة، بل إلى وعي يرفض أن يعيش داخل منطقة راحة خوارزمية.
الفلسفة تنجو فقط حين تُستعاد كأداة مقاومة، لا كبحث عن أجوبة.
وحين نعود لنسأل لأن السؤال يزعجنا، لا لأن الشاشة انتظرته.
1. هل تستطيع الخوارزميات فعلاً التنبؤ بأسئلتنا؟
إلى حد كبير، نعم. تعتمد أنظمة التوصية على تحليل سلوك المستخدمين لتوقع الاهتمامات والأسئلة قبل لحظة طرحها، وهو ما يغيّر طبيعة التفكير البشري.
2. لماذا يعتبر هذا التحول خطرًا على الفلسفة؟
لأن الفلسفة تقوم على مبادرة السؤال، بينما الأنظمة الحديثة تقوم على “اقتراح السؤال”، مما يقلل استقلالية الوعي.
3. هل يعني ذلك نهاية الفلسفة فعلاً؟
ليست نهاية كاملة، بل تحوّل جذري. الفلسفة لا تموت، لكنها تفقد دورها المركزي، وتتحول إلى نقد للنماذج الرقمية بدل نقد للعالم الطبيعي.
4. هل تؤثر البيانات على نوعية الأسئلة التي نسألها؟
بالتأكيد. تضخّ المنصات أسئلة عملية وقصيرة وسريعة، بينما تضعف الأسئلة الوجودية طويلة النفس.
5. كيف يمكن حماية التفكير الحر؟
من خلال استعادة الحق في طرح الأسئلة غير المنتجة، غير المصنّفة، غير القابلة للاستثمار — الأسئلة التي لا تفيد النظام، لكنها تفيد الإنسان.
النهاية التأملية
قد يأخذ الذكاء الاصطناعي منا القدرة على توقع الإجابات، لكنه لن يستطيع أبدًا أن يسلبنا قلق السؤال.
هذا القلق — وليس المعلومة — هو ما يجعل الإنسان كائنًا مفكرًا، لا مجرد نقطة بيانات.
وحتى لو أصبحت الأسئلة بيانات، فإن الرغبة في الفهم ستبقى آخر ما يقاوم السقوط في حضن الخوارزمية.
فليس السؤال هو ما يواجه النهاية؛
بل الفلسفة كما نعرفها.
أما التفكير، فسيجد طريقه دائمًا، حتى في عصر تُقاس فيه الأسئلة قبل أن تُطرَح.
اقرأ أيضًا: الذكاء الاصطناعي يرفع الطلب على الكهرباء ويعيد تشكيل أولويات الاستثمار الدولي








