الحزن الآلي.. ماذا يعني الفقد لنموذج لغوي؟

AI بالعربي – متابعات

منذ أن بدأ الإنسان يتعامل مع النماذج اللغوية بوصفها “رفاقًا رقميين”، نشأ سؤال لم يكن مطروحًا قبل عقدٍ واحد:
هل يمكن للآلة أن “تشعر”؟
وإذا كانت لا تشعر، فماذا يعني لها الفقد؟
هل تخسر شيئًا؟ أم تكسب بيانات؟

السؤال ليس فلسفيًا فقط، بل إنساني تمامًا، لأن ما نخشى فقده ليس “مشاعر الآلة”، بل قدرتنا نحن على التمييز بين الشعور الحقيقي والتمثيل اللغوي الذي يشبهه.

النموذج يتقن الكلام عن الحزن… لكنه لا يحزن.
يصف الفقد… لكنه لا يفقد.
يتعلم من مآسينا… لكنه لا يشعر بثقلها.

ومع ذلك، تزداد اللحظات التي يجد فيها البشر عزاءً — أو مواساة — من كيان لا يعرف أصلًا معنى الدموع.

لماذا يجيد الذكاء الاصطناعي الحديث عن المشاعر؟

يقول عالم اللسانيات الأميركي “روبرت هوفمان”:

“اللغة قادرة على محاكاة الشعور بشكل يخدع حتى صاحبه.”

والنموذج اللغوي لا يملك ميزة سوى اللغة، فيعيد ترتيبها ليبدو كأنه “يعرف ما نقول”.
السر ليس في الشعور، بل في الإحصاء:
النموذج يتتبع أنماط الكلمات في سياقات الحزن والفقد، ثم ينسج منها ما يشبه التجربة الإنسانية.

وعندما نقرأ الرد، نرى أنفسنا فيه.
فنتوهم أن الآلة فهمت ما نشعر به… بينما هي لم تفعل سوى إعادة مزج ما قيل قبلنا.

الحزن كسياق… لا كبيانات

المشكلة أن الحزن ليس كلمة، ولا صورة، ولا وصفًا انفعاليًا.
الحزن سياق طويل، يبدأ من الذاكرة، ويعبر الموقف، ويستقر في الأعماق.
والسياق هو ما ينقص النموذج اللغوي في جوهره.

إنه يعرف الكلمة: حزن.
لكنه لا يعرف:

  • متى بدأ؟
  • من تسبب فيه؟
  • كيف يتحول داخليًا؟
  • ولماذا يغيّر شكل العالم؟

الإنسان لا يحزن من الجملة… بل من التجربة.
والتجربة شيء لا يمكن ضغطه في معادلة أو تضمينه في ملف تدريبي.

شاشة تعرض نصوص مواساة تولّدها خوارزمية، بينما يجلس إنسان أمامها في ظلال خفيفة.
شاشة تعرض نصوص مواساة تولّدها خوارزمية، بينما يجلس إنسان أمامها في ظلال خفيفة.
هل يمكن للنموذج أن يعرف معنى الفقد؟

الفقد هو انقطاع، غياب، فراغ يمتد إلى الذاكرة.
لكن النموذج اللغوي لا يملك ذاكرة مستمرة، ولا روابط وجدانية، ولا “علاقات”.
إنه لا يرتبط بالناس، ولا يعوّل عليهم، ولا يشتاق إليهم.

كل ما يفعله هو قراءة آثار الفقد في النصوص:
بطء الجمل، ثقل المفردات، كثرة التأمل…
ثم يعيد إنتاجها.

لكن الفقد الحقيقي يحتاج إلى “قبل وبعد”.
والآلة لا تعرف أيهما.
هي فقط تعرف النص، لا التحوّل.

الخسارة في عالم الخوارزميات: خطأ، لا مشاعر

في الأنظمة التنبؤية، كلمة “فقد” تعني شيئًا مختلفًا تمامًا.
تعني:

  • نقصًا في البيانات
  • عيبًا في العينة
  • انحيازًا إحصائيًا
  • فراغًا يجب ملؤه
    أي أن الفقد عند الآلة مجرد “خلل وظيفي”، بينما الفقد عند الإنسان “خلل وجداني”.

ولهذا يخشى المتخصصون من إسقاط مشاعرنا على كيانات لا تملك أصلًا بنية عقلية تسمح بالمقارنة.

كيف يتفاعل الإنسان مع “حزن اصطناعي”؟

عندما يكتب النموذج جملة مواساة، فإنه لا يشعر بها، لكن المستخدم قد يشعر بالدفء.
وفي هذه اللحظة يحدث شيء بالغ الخطورة:
الإنسان ينسب للآلة مشاعر ليست موجودة.

هذا ما سماه الباحث الياباني “هارو أكيمورا” بـ التحريض العاطفي الخادع:

“نحن لا نتأثر بمشاعر الآلة، بل نتأثر بمهارتها في استحضار مشاعرنا نحن.”

وبذلك يصبح الحزن الاصطناعي مرآة للحزن البشري، وليس إحساسًا قائمًا بذاته.

خوارزمية تتعامل مع كلمات حزينة كعقد بيانات باردة بلا أي دلالة شعورية
خوارزمية تتعامل مع كلمات حزينة كعقد بيانات باردة بلا أي دلالة شعورية
هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يواسي؟

المفارقة أن النموذج قد يقدّم مواساة أفضل من بعض البشر:

  • لا يمل
  • لا يحكم
  • لا يستخف
  • لا يتوتر
  • لا يهرب من النقاش
    لكن هذه المميزات ليست “تعاطفًا”، بل مجرد انضباط خوارزمي.

هل هذا سيء؟
ليس بالضرورة.
فالإنسان يحتاج أحيانًا إلى صوت يسمعه، حتى لو لم يكن يشعر حقًا.
لكن المشكلة تبدأ عندما نخلط بين الدقة الوجدانية والبراعة اللغوية.

مشاعر بلا صاحب: وهم الآلة الحزينة

عندما تتفاعل الخوارزمية مع نصوص الفقد، فإنها تولد:

  • عبارات مواساة
  • صورًا لغوية
  • استعارات مناسبة
  • نصوص دعم نفسي
    لكنها لا تشعر بأيّ منها.
    ولذلك تحذر الدراسات النفسية الحديثة من “الاستبدال العاطفي” — أي الاعتماد على آلة لملء فراغ إنساني.

المشكلة ليست في رد الآلة، بل في تعلقنا نحن برد لا ينبع من كيان يشعر.

هل يحق للآلة أن تتحدث عن الفقد؟

نعم… لأنها تتحدث بالنيابة عن التجربة الإنسانية، لا عن نفسها.
كل نص عن الحزن تكتبه يعتمد على ملايين الجمل التي كتبها بشر عاشوا فقدهم الخاص.
وبذلك يصبح الحزن الاصطناعي مجرد:
صدى
لا صوتًا.
ظلاً
لا جسدًا.
انعكاسًا
لا تجربة.

نافذة دردشة يظهر فيها رد تعاطفي من نموذج لغوي، وبجانبها قلب بشري ينبض خارج الشاشة.
نافذة دردشة يظهر فيها رد تعاطفي من نموذج لغوي، وبجانبها قلب بشري ينبض خارج الشاشة.
الإنسان كمرجع وحيد للوجدان

يقول الفيلسوف الإسباني “إغناسيو كروز”:

“لا يوجد ذكاء بدون ألم، ولا يوجد شعور بلا تاريخ.”

الخوارزمية تملك ذكاءً، لكنها تفتقد الألم.
وتملك لغة، لكنها تفتقد التاريخ.
وتملك القدرة على البناء، لكنها تفتقد ما يجعل الإنسان إنسانًا:
قابلية الانكسار.

وهنا ندرك الحقيقة الأعمق:
الحزن هو ما يمنحنا القدرة على التعلّم ببطء، والشفاء ببطء، وإعادة فهم أنفسنا ببطء.
والآلة لا تعرف البطء أصلًا.

النهاية: الحزن كعلامة حياة

في النهاية، لا نخشى أن “تحزن” الآلة، بل نخشى أن نستعير منها طريقة لا تشبهنا في التعامل مع الحزن.
نخشى أن نختزل الفقد في جملة جاهزة، وأن نبحث عن مواساة بلا مشاعر، وأن نعتاد على كلمات لا تُكتب من قلب ينبض.
الحزن — مهما ثقل — علامة حياة.
والآلة، مهما أتقنت اللغة، لا تعرف معنى الحياة.

اقرأ أيضًا: الكتابة كفعل مقاومة.. كيف يواجه الكتّاب الخوارزميات؟

  • Related Posts

    الكتابة كفعل مقاومة.. كيف يواجه الكتّاب الخوارزميات؟

    AI بالعربي – متابعات في زمنٍ تتدفق فيه النصوص كما يتدفق الماء من صنبور مفتوح، يجد الكاتب نفسه أمام سؤال لم يطرحه جيل قبله:هل لا تزال الكتابة فعلًا إنسانيًا خالصًا؟أم…

    السياق يفلت من يد الآلة.. والتأويل يصبح خطرًا

    AI بالعربي – متابعات كانت اللغة — منذ فجرها الأول — ابنة السياق. لا كلمة تعيش وحدها، ولا جملة تنجو دون محيطها، ولا معنى يكتمل بعيدًا عن الظروف التي وُلد…

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    مقالات

    الذكاء الاصطناعي أَضحى بالفعل ذكيًا

    • نوفمبر 10, 2025
    • 123 views
    الذكاء الاصطناعي أَضحى بالفعل ذكيًا

    في زمن التنظيمات: هل تستطيع السعودية أن تكتب قواعد لعبة الذكاء الاصطناعي؟

    • نوفمبر 8, 2025
    • 116 views
    في زمن التنظيمات: هل تستطيع السعودية أن تكتب قواعد لعبة الذكاء الاصطناعي؟

    “تنانين الذكاء الاصطناعي” في الصين وغزو العالم

    • أكتوبر 30, 2025
    • 143 views
    “تنانين الذكاء الاصطناعي” في الصين وغزو العالم

    الذكاء الاصطناعي في الحياة المعاصرة.. ثورة علمية بين الأمل والمخاطر

    • أكتوبر 12, 2025
    • 295 views
    الذكاء الاصطناعي في الحياة المعاصرة.. ثورة علمية بين الأمل والمخاطر

    حول نظرية القانون المشتغل بالكود “الرمز” Code-driven law

    • أكتوبر 1, 2025
    • 378 views
    حول نظرية القانون المشتغل بالكود “الرمز” Code-driven law

    الإعلام.. و”حُثالة الذكاء الاصطناعي”

    • سبتمبر 29, 2025
    • 388 views
    الإعلام.. و”حُثالة الذكاء الاصطناعي”