الكتابة كفعل مقاومة.. كيف يواجه الكتّاب الخوارزميات؟

AI بالعربي – متابعات

في زمنٍ تتدفق فيه النصوص كما يتدفق الماء من صنبور مفتوح، يجد الكاتب نفسه أمام سؤال لم يطرحه جيل قبله:
هل لا تزال الكتابة فعلًا إنسانيًا خالصًا؟
أم أصبحت مجرد خيار بين آلاف الأساليب الجاهزة التي تنتجها النماذج اللغوية خلال ثوانٍ؟

فجأة لم يعد التحدّي هو امتلاك الموهبة، بل امتلاك “النية”.
لم يعد الكاتب يقاوم الفراغ… بل يقاوم خوارزمية تستطيع أن تكتب عنه، وتشبهه، وتسبقه، بل وتقلّده حتى يكاد ينسى صوته الأصلي وسط ضجيج النصوص المتولّدة.

إن الكتابة اليوم، وبشكل غير مسبوق، صارت فعل مقاومة؛ مقاومة للذوبان، للتكرار، للسطحية، وللمحتوى الذي لا يحمل روح صاحبه.

الخوارزمية كظلّ طويل يغطي الورق

يقول المفكر الفرنسي “رينيه دوبريه”:

“الكتابة لا تنقل الأفكار، بل تنقل صاحبها معها.”

لكن الخوارزمية لا تنقل صاحبها، بل تنقل ما يشبهه دون أن يكون هو.
تحوّل اللغة إلى احتمالات، والزمن إلى تاريخ بيانات، والكاتب إلى نمط قابل للتقليد.
تلتقط إيقاعه النحوي، ميله الواضح في المفردات، طريقته في الربط، ثم تعيد إنتاجه كظلّ… ظلّ لا يخطئ القواعد، لكنه يفتقد الروح.

هنا يشعر الكاتب العربي — تحديدًا — بعبء مضاعف:
فهو لا يدافع عن صوته فقط، بل يدافع عن لهجة وثقافة وعمق تاريخي لا يفهمه النموذج إلا كمدخلات لغوية.

كاتب يجلس أمام شاشة مضيئة، تتخذ خوارزمية شكل ظلّ يحاكي حركته على الورق.
كاتب يجلس أمام شاشة مضيئة، تتخذ خوارزمية شكل ظلّ يحاكي حركته على الورق.
هل تهدد النماذج التوليدية مهنة الكتابة؟

قد يظن البعض أن الخطر يكمن في قدرة الذكاء الاصطناعي على الكتابة.
لكن الخطر الحقيقي يكمن في تطبيع النصوص الجاهزة.
كلما اعتاد الناس على المحتوى المولّد، أصبح النص البشري — بحروفيته الخشنة، وتردده، وجرأته — غريبًا وسط الانسيابية المصقولة.

حجم النصوص المتولّدة يوميًا أصبح مهولًا لدرجة أن الكاتب لا يكافح ليُقرأ… بل يكافح ليظهر أولًا وسط هذه الكثافة.

هنا تظهر المفارقة العجيبة:
الآلة تكتب أسرع، لكن الإنسان وحده يكتب أعمق.
النموذج يتوقع، لكن الكاتب يشكّ.
النموذج يكرر، لكن الكاتب يغامر.
ومن هذه الفجوة البالغة الدقة تنشأ احتمالية النجاة.

ما الذي لا تستطيع الخوارزمية فعله؟

رغم ضجيج القدرات، هناك مناطق لا تستطيع الآلة اختراقها، مهما توسّعت:

1. لا تعرف التجربة الشخصية

الخوارزمية لا تعيش الفقد، ولا الشعور بالذنب، ولا لهفة الحب الأول.
تعرف الكلمات التي تصفها… لا التجربة التي تُنتجها.

2. لا تمتلك موقفًا

يمكنها أن تكتب رأيًا، لكنها لا تؤمن به.
وغياب الإيمان يجعل النص بلا حرارة.

3. لا تولّد المجاز الحقيقي

قد تنتج استعارة، لكنها استعارة “مدربة”؛
بينما المجاز البشري يولد من جرح أو دهشة أو لحظة انكسار.

4. لا تتمرّد

الآلة لا تكسر القواعد إلا إذا طُلب منها.
والكاتب الحقيقي يكسر القواعد لأنه يريد أن يقول شيئًا لا تقوله اللغة المعتادة.

نصوص مطبوعة كثيرة متشابهة، وفي وسطها ورقة بخط يدوي غير منتظم.
نصوص مطبوعة كثيرة متشابهة، وفي وسطها ورقة بخط يدوي غير منتظم.
الكتابة كفعل بقاء في عالم آلي

يقول الروائي “جوناثان فرانزن”:

“الكتابة هي الطريقة الوحيدة لأعرف نفسي.”

وهذا ما يجعلها مقاومة.
فعندما ينتج الذكاء الاصطناعي آلاف النصوص في الدقيقة، فإن كل جملة يكتبها الإنسان تتحول إلى بيان هوية.
يقول فيها:
أنا هنا.
وهذا صوتي.
وهذه تجربتي التي لا يمكن للآلة أن تحاكيها، مهما أجادَت.

الكتابة ليست وظيفة لغوية فقط، بل هي وعي ذاتي، ووعي بما نرى ونشعر ونخاف ونأمل.
وهذا الوعي — بطبيعته — لا يمكن شحنه إلى خوارزمية.

كيف يقاوم الكتّاب الذوبان في زمن النماذج؟
1. العودة إلى الكتابة اليدوية

الكثير من الكتّاب اليوم يعودون إلى الورق كنوع من الاستعادة الروحية.
الورق يقاوم التهذيب الآلي، ويحفظ الأخطاء، ويترك أثر اليد كإثبات على أن الجملة جاءت من كائن يشعر.

2. الإكثار من التفاصيل الحميمية

الذكاء الاصطناعي يتقن العموميات، لكنه يتعثر في التفاصيل الصغيرة:
رائحة الشارع بعد المطر، صراخ الباعة عند الغروب، نبرة أمّ عربية وهي تقول “خُد بالك من نفسك”.
هذه التفاصيل مقاومة طبيعية للنسخ والاستنساخ.

3. الكتابة باللهجات

اللهجات — العربية خصوصًا — غابة لا تستطيع الخوارزميات السير فيها بلا عثرات.
كلما استخدم الكاتب لغته اليومية، كلما احتفظ بصوته.

4. كشف طريقة الكتابة نفسها

بعض الكتّاب يعمدون إلى فضح “عملية الكتابة” داخل النص.
يكتبون عن لحظة التوقف، الضجر، الحيرة، وتردد اختيار كلمة دون أخرى.
والآلة لا تتردد… وهذه وحدها كافية لتمييز الإنسان.

5. الجرأة في قول ما لا تتوقعه الخوارزمية

النموذج يتنبأ بالأكثر احتمالًا.
والكاتب الحقيقي يتجه — غالبًا — نحو الأقل احتمالًا.
هذه الحركة العكسية هي جوهر المقاومة.

يد بشرية تكتب جملة تُقاوم موجة من كلمات رقمية تتدفق نحوها.
يد بشرية تكتب جملة تُقاوم موجة من كلمات رقمية تتدفق نحوها.
هل الخوارزميات تهدد الأدب؟ أم تحيي روحه؟

قد تكون المشكلة الحقيقيّة ليست في أن الذكاء الاصطناعي “يكتب”، بل في أنه يدفع الكاتب إلى أن يسأل نفسه:
ما المختلف في صوتي؟
ماذا أضيف ولا يستطيع النموذج إضافته؟
كيف أجعل تجاربي غير قابلة للاختزال؟

إنها أسئلة صعبة… لكنها ضرورية.
وربما يكون الذكاء الاصطناعي، paradoxically، أفضل ما حدث للكتابة منذ سنوات؛
إذ أعاد للكاتب إحساسه بأن ما يفعله ليس مجرد صياغة، بل اختراع لنفسه في عالم يُهدد بتحويل الجميع إلى تنويعات إحصائية.

الكتابة كأثر إنساني لا يمكن نسخه

في نهاية الأمر، تظل الكتابة فعلًا بشريًا بامتياز لأنها تُكتب من الداخل، من الشعور، من النبرة التي لا تُسجَّل، من لحظة الصمت بين الفكرة والفكرة.
الذكاء الاصطناعي يستطيع أن ينتج نصوصًا لا حصر لها، لكن لا يستطيع أن يعرف لماذا نكتب، ولا لمن نكتب، ولا ماذا نخسر أو نربح حين نكتب.

وهكذا تصبح الكتابة، وسط هذا العالم المتسارع والمتناسخ، فعل مقاومة هادئًا لكنه عنيد:
مقاومة للضياع، للنمط، للتكرار، ولمحو الحدود بين الإنسان والآلة.
إنها مقاومة تقول بمنتهى البساطة:
“هذه كلماتي… وهذا صوتي… ولن يتولّده أحد غيري.”

اقرأ أيضًا: السياق يفلت من يد الآلة.. والتأويل يصبح خطرًا

  • Related Posts

    الحزن الآلي.. ماذا يعني الفقد لنموذج لغوي؟

    AI بالعربي – متابعات منذ أن بدأ الإنسان يتعامل مع النماذج اللغوية بوصفها “رفاقًا رقميين”، نشأ سؤال لم يكن مطروحًا قبل عقدٍ واحد:هل يمكن للآلة أن “تشعر”؟وإذا كانت لا تشعر،…

    السياق يفلت من يد الآلة.. والتأويل يصبح خطرًا

    AI بالعربي – متابعات كانت اللغة — منذ فجرها الأول — ابنة السياق. لا كلمة تعيش وحدها، ولا جملة تنجو دون محيطها، ولا معنى يكتمل بعيدًا عن الظروف التي وُلد…

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    مقالات

    الذكاء الاصطناعي أَضحى بالفعل ذكيًا

    • نوفمبر 10, 2025
    • 123 views
    الذكاء الاصطناعي أَضحى بالفعل ذكيًا

    في زمن التنظيمات: هل تستطيع السعودية أن تكتب قواعد لعبة الذكاء الاصطناعي؟

    • نوفمبر 8, 2025
    • 116 views
    في زمن التنظيمات: هل تستطيع السعودية أن تكتب قواعد لعبة الذكاء الاصطناعي؟

    “تنانين الذكاء الاصطناعي” في الصين وغزو العالم

    • أكتوبر 30, 2025
    • 143 views
    “تنانين الذكاء الاصطناعي” في الصين وغزو العالم

    الذكاء الاصطناعي في الحياة المعاصرة.. ثورة علمية بين الأمل والمخاطر

    • أكتوبر 12, 2025
    • 295 views
    الذكاء الاصطناعي في الحياة المعاصرة.. ثورة علمية بين الأمل والمخاطر

    حول نظرية القانون المشتغل بالكود “الرمز” Code-driven law

    • أكتوبر 1, 2025
    • 378 views
    حول نظرية القانون المشتغل بالكود “الرمز” Code-driven law

    الإعلام.. و”حُثالة الذكاء الاصطناعي”

    • سبتمبر 29, 2025
    • 388 views
    الإعلام.. و”حُثالة الذكاء الاصطناعي”