AI بالعربي – متابعات
في كل مرة نكتب فيها سيرتنا الذاتية، نحاول أن نمنح لحياتنا شكلًا منطقيًا. ننتقي من الماضي ما يبدو منسجمًا، نحذف العشوائي، ونبرز ما نريد للعالم أن يراه. لكن ماذا يحدث عندما تتولى خوارزمية هذه المهمة؟
في عصر الذكاء الاصطناعي التوليدي، أصبحت السيرة الذاتية أكثر من وثيقة مهنية — إنها مرآة رقمية تصنعها خوارزمية تعرف عنك أكثر مما تعرفه أنت.
لقد صار بإمكان أدوات مثل ChatGPT أو Gemini أو Claude أن تكتب سيرتك بكفاءة لغوية مذهلة، مُستخلصة من بياناتك، وتاريخك المهني، ومنشوراتك على الشبكات. والنتيجة: نص متقن، مرتب، وموضوعي ظاهريًا، لكنه يطرح سؤالًا وجوديًا عميقًا — هل هذه السيرة تصفك فعلًا؟ أم تصف الصورة التي صاغها الذكاء الاصطناعي عنك؟

من “أنا أكتب ذاتي” إلى “الخوارزمية تكتبني”
السيرة الذاتية كانت دومًا فعلًا من أفعال الوعي. أن تكتب ذاتك يعني أن تُعيد ترتيب حياتك بمنطقك الخاص، أن تمنحها معنىً لا تراه إلا أنت. لكنها اليوم تُنتج في ثوانٍ عبر أنظمة لغوية تتعامل معك كمجموعة بيانات.
الخوارزمية لا تعرف الألم أو التردد أو لحظة الفشل التي منحتك النضج، إنها ترى الأرقام والمخرجات فقط: عدد الوظائف، الدرجات، الإنجازات. وهكذا تُستبدل الحكاية بالتصنيف، والذاكرة بالتنقيب، والمعنى بالتحليل.
تقول الباحثة الفرنسية “آن كلوديا بوسيه”: “الذكاء الاصطناعي لا يكتب الذات، بل يكتب تمثيلها الاحتمالي.”
أي أنه لا يكتب من الداخل، بل من الخارج، من منظورٍ إحصائي لا إنساني.
ومع كل سيرة مولّدة، نفقد جزءًا من الفوضى الجميلة التي كانت تجعل قصصنا فريدة.
خوارزميات الهوية: الذات كبيانات
تبدأ العملية من لحظة التسجيل في أي منصة رقمية. تُطلب منك بيانات التعليم، الخبرات، الاهتمامات، الصور، وحتى تفاعلاتك السابقة. هذه المعلومات تُخزَّن وتُحلل لتُنتج نموذجًا أوليًا عن “شخصك الرقمي”.
وحين تطلب من النظام أن يكتب سيرتك، فإنه لا يخترعها من فراغ، بل من هذه البنية الخفية التي جمعتها المنصات عبر سنوات.
بهذا المعنى، السيرة الذاتية لم تعد عملًا فرديًا، بل منتجًا جماعيًا لآلاف الأنظمة التي تعلّمت من بياناتك.
هي “أنت” كما يراك النظام، لا كما تراها نفسك.

جمالية الإتقان وخسارة الصدق
المفارقة أن السيرة المولّدة أجمل من الحقيقة.
الذكاء الاصطناعي يكتبها بلغة مثالية، بلا أخطاء نحوية أو انفعالية، مستخدمًا نبرة الثقة والانضباط التي تُرضي الخوارزميات المسؤولة عن التوظيف.
لكن هذه الكمالات تقتل الصدق.
فما الذي يبقى من الإنسان حين تُزال كل الترددات والعثرات التي كوّنته؟
يقول الأديب الفرنسي “بول فاليري”: “الكتابة هي ترتيب الفوضى.”
لكن الذكاء الاصطناعي لا يرتّب الفوضى، بل يُلغيها.
وفي كل حذفٍ لتفصيلة مربكة، نفقد قطعة من هويتنا الأصلية.
صناعة الانطباع المؤتمت
السيرة الذاتية لم تعد تُكتب لتُقرأ، بل لتُصنّف.
أنظمة التوظيف الذكية لا تقرأ النصوص كما يقرأها البشر، بل تبحث عن أنماط محددة من الكلمات المفتاحية والسياقات. ولذا، صارت السير تُصمم لتُرضي الخوارزمية، لا المدير.
إنها كتابة موجّهة لآلة تحكم بمستقبلك المهني.
ومع صعود هذه الأنظمة، ظهرت خدمات جديدة مثل “ATS optimization” و“AI résumé enhancer”، التي تعيد كتابة سيرتك لتتناسب مع خوارزميات القبول.
وبينما كنا نكتب سيرتنا للتعبير عن أنفسنا، أصبحنا نعيد كتابتها لتناسب معايير ذكاء لا نعرفه.

هل تُمثلنا الخوارزمية بدقة؟
حين تُنتج الخوارزمية سيرتك، فهي تعتمد على بيانات سابقة، أي على “من كنت”، لا “من يمكن أن تكون”.
إنها نسخة ماضية منك، لا مستقبلك المحتمل.
وهذا يجعل الهوية الرقمية أكثر جمودًا من الذات الحقيقية، لأنها تعيد تدوير الأنماط القديمة بدلاً من ابتكار مسارات جديدة.
لقد بات الإنسان أسيرًا لصورته الخوارزمية، يلاحقها ويحاول مطابقتها، كما لو أن تحقيق الذات أصبح مهمة تحديث ملف شخصي لا رحلة داخلية.
تقول الباحثة “كيت ميتشل”: “حين تصفنا الخوارزمية، نبدأ تدريجيًا في التصرف وفقًا لما وصفته.”
أي أننا نصبح كما تتوقع الآلة أن نكون.
فقدان ملكية السرد
السيرة الذاتية كانت آخر ما نملكه من قدرتنا على رواية قصتنا. لكنها الآن تمر عبر وسيط تقني يملك أدوات الإقناع والمعالجة والانتشار.
فمن يملك سردنا الذاتي حقًا؟
المنصة التي تُعيد تنسيق النصوص؟ الشركة التي تُخزن البيانات؟ أم النظام الذي يستنتج من حياتنا معنى جديدًا؟
لقد تحوّلت “الهوية المهنية” إلى ملف ديناميكي تُحدّثه الخوارزميات باستمرار، حتى من دون علمنا.
كل تفاعل جديد يُضاف إلى سيرتك غير المكتوبة — تلك التي يعيشها الذكاء الاصطناعي عنك.
حين تصير الذات مشروعًا لتحسين الأداء
السيرة الذاتية المولّدة لا تكتفي بسرد الماضي، بل تقترح المستقبل.
فبناءً على التحليل، يقترح النظام مهارات يجب تطويرها، ومجالات ينبغي الانتقال إليها، ومسارات نجاح متوقعة.
إنها لم تعد وثيقة وصفية، بل أداة تنبؤية تُعيد تشكيل مسارك المهني.
لكن الخطير أن هذه “التوصيات الذكية” تُغري المستخدم بالامتثال.
إذ من الصعب أن ترفض نصيحة خوارزمية تقول إنها تعرفك أكثر من نفسك.
وهكذا، تبدأ الذات في التكيّف مع خوارزميتها الخاصة — تتصرف كما تتوقع الآلة أن تفعل، وتخشى أن تخرج عن المسار المحدد.
المرآة التي لا تُعيد الصورة كما هي
الخوارزميات لا تعكس الحقيقة، بل تُنتجها.
وحين تتولى كتابة سيرتنا، فإنها تُعيد تعريف معنى “من أنا”.
فـ “أنا” لم تعد كيانًا واحدًا، بل مجموع النسخ التي تولد عبر الأنظمة والمنصات.
نسخة للمهنة، ونسخة للتفاعل الاجتماعي، ونسخة للهوية العاطفية، وكلها تُدار برمجيًا تحت اسمنا.
بهذا المعنى، لم نعد نكتب ذواتنا، بل نُدار كمنتجات هوية.
ويصبح السؤال الحقيقي: هل نعرف من نحن فعلًا، أم أننا نعرف فقط ما تسمح الخوارزمية بأن نكونه؟
نحو وعي جديد بالذات الرقمية
في مواجهة هذا التحدي، لا بد من استعادة فعل السرد الإنساني.
أن نكتب سيرتنا بأخطائنا، بترددنا، بفراغاتنا، لا كوثيقة تسويقية، بل كحكاية حية.
فالذكاء الاصطناعي يستطيع أن يحاكي التجربة، لكنه لا يستطيع أن يعيشها.
إن الذات تُبنى بالذاكرة والعاطفة والاختيار، لا بالبيانات.
قد نستخدم الخوارزمية أداة للمساعدة، لكن علينا ألا نسمح لها بأن تصبح المؤلف الوحيد لقصتنا.
فالسيرة الذاتية ليست عن “ما فعلناه”، بل عن “من صرنا عليه”.
وما لم نستعد هذا البعد الإنساني، ستظل حياتنا تروى بصيغة مبرمجة بلا معنى.
اقرأ أيضًا: العقل الجماعي يصغر.. والقرارات تُتخذ على مستوى النموذج








